تعد ظاهرة طفح “اللجان” وتشكيلها احدى أبرز تجليات العجز والفساد، والتهرب من مواجهة ما يفترض انها قد تشكلت من اجله. فهي قد تحولت بيد هذا الهرم الهائل من الفساد السياسي والاداري، الى وسيلة لطمطمة وتسويف اخطر القضايا والملفات، حيث يصعب العثور ومن وسط كل هذا الركام منها، على من خرجت علينا بنتائج ومعطيات حقيقية وجريئة. فهي قد تحولت الى نوع من التقنيات السلبية والداعمة لقوى الفساد وشبكاته الممتدة لتفاصيل حياة المجتمع والدولة العراقية، حيث تبادر الهيئات والمؤسسات لتشكيلها بعد كل جريمة او انتهاك أوفضيحة مادية وقيمية، لا من اجل الكشف عن المسؤولين عنها، بل من اجل امتصاص الغضب والاستياء، ومن ثم دفع القضية تدريجياً الى حيث مكانها بين أضابير الاهمال والنسيان، وهذا ما حذرنا منه الراحل الكبير نجيب محفوظ في عبارته المشهورة: (آفة حارتنا النسيان). عندما تتحول اللجان الى مجرد تابع وخادم مطيع لهذه الآفة (النسيان) فهذا يتطلب لا الحذر منها وحسب، بل ايجاد السبل التي تنزع عن قوى الفساد استعمالها لمثل هذه الوسيلة الممسوخة.
لا تتوفر لدينا معطيات وأرقام حول عدد ونوع “اللجان” التي تشكلت بعد زوال النظام، لكنها من دون ادنى شك رفدت وباء المرحلة الجديدة (الترهل) بقسط لا يستهان به، تناغماً والتضخم الخرافي لعدد موظفي الدولة (حيث تشير بعض التقارير الى ما يقارب الـ 280 الف موظف قبل “التغيير” ليصل الى أكثر من أربعة ملايين بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين) وهذا بحد ذاته يتطلب غطاء واسعا ومكثفاً من الوسائل المتخصصة بتمريره وعلى رأسها تقنية اللجان المجربة. ومن يتابع المشهد الغرائبي لادارة الدولة من قبل الحكومات المتعاقبة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، نجدها لا تلتفت جميعا لما تمخض عن هذا الجيش العرمرم من اللجان والتشكيلات التي وجدت لاداء وظيفة محددة. لا احد يهدر وقته في اقتفاء أثر كل هذه المصائب والتي ما زالت تتوالى على روؤس ومصائر سكان هذا الوطن المنكوب بآفة النسيان واللامسؤولية والهوان. هكذا تكيفت هذه الوسيلة والتي وجدت من اجل دعم ورفد الدولة الحديثة، بالمعطيات والمعلومة الصحيحة والارقام الفعلية الضرورية لتقويم الاحوال والعيوب، الى ضد ذلك تماماً، حيث تظهر وتختفي من دون ان تترك وراءها أثراً يذكر، اما ان شذت بعضها عن ذلك، وخرجت بشيء من التوصيات وغير ذلك من المعطيات المبهمة، فان توصياتها الخجولة لن تجد بانتظارها سوى الاذن الطرشة.
ان افراغ (اللجان) من محتواها ووظائفها، لا يقتصر على هذه الوسيلة فقط، بل يمتد الى عمل ومشاريع الغالبية العظمى من المؤسسات والهيئات والادارات، القديمة منها والمستحدثة لضرورات ما يفترض انها مرحلة للتحول صوب الديمقراطية ودولتها الحديثة. أي انها جزء من منظومة شاملة ومتكاملة من المصالح والقوى والعقائد، ويمكننا التعرف الى امثال ذلك في الكثير مما يحيط بنا من الممارسات والسلوك، أي انه تحول الى اسلوب حياة لا يخص الطبقة السياسية وحسب بل تورطت به قطاعات واسعة من المجتمع (افرادا وجماعات) وهذا ما يفسر علل كل هذا الاستعصاء والفشل في معالجتها.
انها خزعة صغيرة من كيان متهالك ومترهل ومثقل بالعطابات والتعاويذ البائسة…
جمال جصاني