ريم قمري
(رسالة إلى أمي من جندي شهيد)
أذكر جيدًا أنك كنت قد قلت لي إن أجمل يوم في حياتك كان حين ضمني صدرك واستنشقت رائحتي وتغلغلت في جسدك، ومن يومها لم نفترق، تسري رائحتك في مسامي، وتتوغلين بعيدا في دمي.
تجلسين في غيابي على (قلق كأن الريح تحتك)، تأخذني منك مصادفات الحياة بعيدا لكنني أعود دائما.
وحدك من تملكين كل تفاصيلي، وتعرفين موضع الألم في روحي وجسدي.
لم أكن دائما فتى صالحا، كذبت عليك أحيانا، وكنت صادقا فقط في حاجتي إليك كلما عدت مكسورا من هزائمي الصغيرة.
أذكر لا مبالاتك المصطنعة حين اكتشفت سجائري الأولى، التي كنت أدخنها خلسة فوق السطح وكيف كنت تغمزين بعينك فأرتبك وأصمت.
سأخبرك بسر، لم أكن أشعر أنا الولد الشقي بالخجل إلا منك أنت، خجلت أول مرة مارست فيها العادة السرية خلسة في الحمام، تخيلت وجهك وذبت.
أحسست أنك كنت تربتين على كتفي، وتبتسمين لفحولتي في كل مرة أنام فيها في حضن حبيبة عابرة.
خجلت أيضا وأنا أتسلل ليلا ثملا، بعد ليلة خمرية مع أصدقاء السوء، كما كنت تصفينهم، وأنا ألمح ظلك خلف النافذة.
لقد أحببتك دائما في صمت، أنا من كان قادرا دائما على إغواء أجمل النساء بعذب الكلام، لم أقل لك يوما كم أحبك، لم أرسل لك رسائل، لم أكتب قصائد غزل في عينيك، ولم تطلبي يوما مني ذلك.
لأجل عينيك فقط لم أفقد إيماني بالسماء، السماء التي كانت تقذفنا بالموت وكنت تواجهينها دائما بابتسامتك تشرق من خلف الدموع.
ولم أخنك أبدا، هم من اقتلعوني من حضنك بين إغفاءتين وبسمة، اخترقوا صمت الليل وشردونا، ما زال حلمي دافئا، ورائحتك تنساب مع دمي حارة.
أين أنا الآن؟ أشعر أنني خفيف جدا مثل ريشة يعبث بها الهواء كما يشاء، أنني أفقد توازني، لا أكاد أحس بثقل جسدي، بل أشعر أني فقدت جسدي تماما، أحاول أن أحرّك يدي وألمس رجلي، يا إلهي يدي ليست هنا أيضا، أين ذهبت؟؟ لا أشعر بها، رأسي خفيف جدا يتحرك دون أن أحركه، إذا كنت قد فقدت حواسي فلماذا أستمر بالشعور بما حولي؟؟
أرى أنوارًا كثيرة تتراقص أمام عيوني، صدقا لا أستطيع أن أجزم إن كانت تتراقص أمام عيوني أو أمام شيء آخر، المهم أحس بوجودها.
الصمت حولي رهيب، ترى أين أنا الآن؟ لا أعرف هذا المكان ولا أعتقد أنني زرته من قبل، يشبه البحر، لا، لا أعتقد، لا أشعر بالبلل.
أرهف السمع فتأتيني أصوات بعيدة، لا تشبه همس العشاق أو مناجاة النساك، فيها ألم وحشرجات، إنها صرخات استغاثة، أدور حول نفسي وتزداد حيرتي.
أين أنا؟ ومن أكون؟ حين قفز إلى ذهني السؤال الأخير اكتشفت أني لا أذكر شيئًا، لقد فقدت الذاكرة تماما، نعم فقدتها، لا اسم لي ولا تاريخ ميلاد، لا عنوان ولا أهل حتى ذكريات حبيبة لا أملك.
هل أنا نكرة لا تاريخ له، أو بقايا وجود بشري لفظته أحشاء الكون، من أكون وكيف أستمر بلا ذاكرة؟؟
بدأت الأصوات البعيدة تقترب أكثر مني، صارت أوضح، فجأة حصل دوي كبير أعقبه صوت انفجار كبير هز أرجاء الفضاء الذي كنت أسبح فيه، ثم بعد ثوان أطلت علي بعض الوجوه وتحلقت حولي، بدت لي أليفة ولكني لم أفلح في تذكر أي منها.
اقترب أحدهم مني كثيرا حتى كاد يلتصق بي، ودفع باتجاهي بورقة بيضاء يلطخ بياضها الأحمر، عرفت فيما بعد أنها دمائي، وأنني كنت أكتب رسالة لحبيبتي قبل أن يخترق رصاص الرشاش صدري، فسقطت الرسالة في دمي وبقيت ذاكرتي عائمة بين سطورها.
عادت لي ذاكرتي أخيرا، الموتى يحملون دائما ذكرياتهم معهم، لا حاجة لأهل الأرض بذكرياتنا، نحن ننتهي حين تجف آخر الدموع الأرضية، وننسى كما نسيتنا الحياة.
ألقيت نظرة أخيرة على أشلائي المبعثرة، عانقت آخر ذكرياتي ثم انسحبت من مجالكم الجوي وانطفأت.
حين حولوني إلى أشلاء لم أستطع أن أخبرهم أنك أعددت العشاء وأنه ما زال ساخنا وأنك في انتظاري، لم يمهلوني قليلا لأقول إني فقط احتاج قبلة أخيرة منك، حتى أنام بسلام.
لا تحرسي الصور في غيابي، اتركي الغبار يأكلها، لا أحب أن ينغلق قلبك على بقايا صور.
لا تعتني بثيابي وغرفتي، دعي عنك كل ما يذكرك بحضوري الجسدي، فقط اتركي الأغاني تسري في جسد الغياب عني وعنك.
*شاعرة وقاصة من تونس