علوان السلمان
النص الشعري..مغامرة يخوض عوالمها منتج واع تستدعي استنطاق الواقع بمكوناته واعادة خلقه ببذل جهد استثنائي يقتضي اشغال الفكر والتأمل من خلال التفاعل بين العالم الخارجي(الموضوعي) والعالم الداخلي(الذاتي).. لتقديم نص محقق لمعيار الحداثة الشعرية الكامن في التجديد والابتكار واستيعاب معطيات العصر بالانتقال من (الثابت الى المتحول)..فضلا عن تفرده بايحاءاته التصويرية وعمقه الدلالي الذي يكشف عن مكنون الذات التي هي جزء من الذات الجمعي الآخر ببوح وجداني منطلق من مرجعيات فكرية تسهم في اتساع عوالمه وتعدد مشاهده المنصهرة في بوتقة تراكيبه وفق دوافع نفسية تتفاعل والتجربة الذاتية للتعبير عن الحالة الذهنية والاستقرار في الادراك الحسي لما يحمله من دلالات سيميائية عبر دوال متلاحقة لتحقيق الاثر الكلي..مع الاحتفاظ بوحدة موضوعية مؤطرة بمبنى فني يتناسب والموقف الفكري وانعكاساته الوجدانية..
وبتقصي وتفكيك عوالم النص الشعري(احزان صانع الذهب) الذي افرزته ذهنية الشاعر جبار الكواز فاشتغل على الارتقاء بدلالته الى المستوى الذي يحقق انزياحا من خلال تكثيف واختزال العبارة الخالقة لصورها الشعرية..اضافة الى توظيفه الرمز الذي يسهم في اتساع مديات النص وفضاءاته..مع تجاوز طرق التعبير النمطية لخلق حالة جمالية..ابداعية مستفزة لذهن المستهلك(المتلقي)..كون الابداع(دخول المجهول) على حد تعبير ادونيس..فكان النص رافضا لاشكالات الواقع وكيانا مشحونا بعذابات الانسان وذاته..كاشفا عن قاموس شعري متوهج بالفاظه وخزين ذاكرته بسردية شعرية واعية..مسايرة للتحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يشهدها الواقع الذي فرض على الشاعر الزاما ان يثري نتاجه الابداعي بطاقات تعبيرية واشكال فنية فاتجه لتوظيف الرموز الاسطورية والتاريخية لتجسيد حالة ذهنية ينسجها المنتج (الشاعر) في تراكيبه الجملية فيكشف عن دلالاتها التعبيرية والايحائية..اضافة الى تجسيد الانفعال في قالب جمالي يخضع لعملية بنائية متشابكة العلاقات الدلالية..
وهو ينثر مواعيده في الهواء
قال:منذ حزن لم اطرق ابواب الدينونة
كان منزلي النائم في الاعالي/ونوافذي التي ادخرت اوهام العشاق
كتبي التي خانتها الارضة/وخطاي الثقيلة ما شحت بوجهها ليالي العسر
واطراس مياهي في رزنامة القتلى/( كل ذلك هواء في شبك)
وقال:لم تقتنص نظاراتي بابل في المخاض
ولم تقترح سلة قمامة لخطب زعماء الهواء
لم امسح دمعتي وانا اكنس الرصيف باللوم
وقال:لا تبتئس ايها الترابي
فاكاذيبي مواعيد/وذهبي خطى/واحاديثي غابة
( وانتم اعمدة ملح)/انا قمح الارض/ادندن فترقص السحب
واركض فتجري انهار( بصرى)/وانام ملتحفا( بستان قريش)/في ذات مطر
فالنص يتشكل من خلال تداعي الزمن في الذاكرة..ابتداء من الاستهلال باستدعاء الماضي بكل صوره ومكوناته ليشكل بؤرته بكل ما يحمل من قيم ورؤى وافكار عبر الانموذج الانساني..باعتماد التدويرالتكراري وتوظيف فعل القول وخضوعه لاندفاع شعوري لا مجال لايقافه من اجل الكشف عن اللغة واعادة بنائها لتكون قادرة على الايحاء مع موسقة تعتمد الانزياح والتحول الرؤيوي كي يبق المنتج(الشاعر) ايجابيا في سعيه لتحقيق حلمه ونسج عوالمه عبر حوار ذاتي(مونولوجي)..فضلا عن تأسيس بنية صوتية مؤطرة بنظام التكرار(قال)..مع تميزها بابعاد رؤيوية تتناغم فيها الاصوات والامكنة والصور فتتجلى فاعلية اللغة بوصفها تجسيدا للوعي الواقعي وايقاع الحياة اليومي..اذ ان الشاعر يركز على التفصيل الحركي الحكائي الذي يتضح عن طريق تتابع الافعال وتحديد المكان وابراز معالمه مما اعطى النص دفقا نحو واقعية الحدث.. وهو يعتمد الوحدة الشعرية المتخيلة في(الصورة التي تقدم عقدة فكرية وعاطفية في برهة من الزمن)كما يقول ازرا باوند..والالفاظ والانفعالات والمشاعر والتجربة المعبرة عن موقف اجتماعي..انساني حملت دلالات الواقع بكل تناقضاته وابعاده الكاشفة عن وعي الشاعر بحركة الزمن(المعطى الموضوعي السابق لحركة الانسان وفعله ورؤيته..)
وقال:انا قمحكم فلا تكنزوه بطرا
انا باب ( حطة) فلا تعلفوها لمفاتيح الوهم
ولا تشطبوا تاجها بهواء اسود/او برسامي عصر النهضة
وقال :اكتبوا عني/حروفا تطلع منها خيول خشب
ولجامات حرير وبراذع ياقوت وهسهسات ظلام وحلي صبايا منتحرات واباريق خمر تلمع عيون موتاها في اسفار الافعى/اناالاية المنحولة بالخوف
وانا قال:خمرتكم النائمة في الشجر/فتعالوا/امسكوا ليلتي من عرفها
صبوا شكوكم في مضارعي المريض/اغسلوا حصاني الخشبي بدمائكم
وحاذروا عسس السوق/ولؤم الزوايا/انا قمحكم
قال:فمن يدخل فردوسي بلا خوف؟/ومن يلم شظايا مراياتي؟/ومن يحصي
( طيور ذهب/طواويس فضة/ يمام عاج ايائل ابنوس/ فراشات لؤلؤ/ صبايا عاريات من زبردج / مباخر مرجان/ قلائد يسر/ وياقوت وكهرمان)؟
فالنص يقترب من الحكائية بتدفق وجداني ينبثق من مركز دائرة الوعي الشعري الذي تؤطر عوالمه الصورية(المشهدية) ودلالاته الموحية تقنيات فنية واسلوبية اسهمت في تجاوز المألوف…كتقنية التكرار لاغناء الجانبين الصوتي والدلالي للنص..والتنقيط التشكيل الصامت الدال على المحذوف والذي يستدعي المستهلك للاسهام في ملىء بياضاته..وهناك الاستفهام والحوار الذاتي الكاشف عن المضمر من القول والمسكوت عنه فيقدم نسقا احتفائيا يقوم على انتزاع الصور لتحقيق جمالية نصية عبر سردية تقوم على افعال حسية شكلت محور الحركة والتحول من خلال جدلية التناقضات التي شكلت عنصر من عناصر الصورة الشعرية التي تستمد شعريتها من الذاكرة الذاتية والموضوعية(المتكلم/المخاطب) بتوليفة تجمع ما بين الواقعي والتخييلي..والتي تعكس التأثير النفسي بجمل قصيرة متوترة تتميز بدفقها الدرامي من خلال بروز عنصر الحوار الداخلي الذي يشكل وسيلة التوصيل داخل النص..كونه يعبر عن ابعاد فكرية وشعورية..مع اعتماد حوار الموجودات لخلق معادل اجتماعي واخراج الاشياء من صمتها وسكونها..اضافة الى اشتراك الحسي والذهني في البناء النصي الذي بني على عالمين مكانيين:الذاكرة والواقع بموجوداته والذين من خلالهما تتشكل حركة الاقتراب والابتعاد عبر جمل تتنوع اشكالها مع تجاوزها المعايير المتداولة..فيكشف الشاعرعن انفعالاته عبر لغة موحية مؤثرة تعتمد الرمز الموغل في الامتداد الزمني..
قولوا لي برجاء:
ـ هيت لك فنصوصك خبال/هيت لك قلائدك لهب/هيت لك نايك ضباب
وانا قمحكم التي اكلته الارضة/التي طلعت منه افراس ظلام
وصراخ اموات/وازيز رصاص/ودخان اسارى
انا /كرسيِ لكم ذو عجلات ذهبية
عفوا/ فضية /عفوا /خشبية /عفوا /مائية
لا فرق/قلبي مريض بتليف احزانكم
ميزاني منخذل/مثاقيلي نائمة
واصحابي فرقهم الموت/وما زالوا يرقصون فوق ا كفانهم
يملؤون حياتي بالخوف/وذهبي بالصدء/وحواراتي بالشك/
اقول لكم:لا وجار لدي سوى فم لاطراس خرائطكم
لا ذهب الا النابت في مقابر حكاياتكم
فالشاعر يصور هواجس شخوصه الداخلية مع تركيزه على الجوانب المعتة ..اضافة الى تركيزه على التفصيل الحركي الحكائي الذي يتجلى عن طريق الافعال وتحديد المكان وابراز معالمه المتفاعلة والوجدان الاجتماعي بلغة تحمل قلقا مجتمعيا متحولا باستمرار..مع احتفاء باليومي وانفتاحه على الرؤيا واللحظة المكثفة ذات الابعاد الجمالية والدلالية مع تركيز على الخصائص الحسية واستنطاق كينونة اللفظ الرمز وتفعيل الاثر الذهني باسترسال سردي متعدد الظلال الرؤيوية فضلا عن التركيز على السياق الحدثي مبنى ومعنى وهو يستمد تأثيره من خلجات النفس وعوالمها السابحة في فضاءات المخيلة الشعرية التي تنتج صورا تستفز الذاكرة وتحقق اثرها..
وبذلك قدم الكواز نصا شعريا اتسم بالوعي الفكري من خلال موقف واع لمعطيات الزمن السابحة داخل أطر دلالية تنحصر في(الذاتي والتاريخي والانساني) وهو يبحر بعيدا في لغتها وايقاعاتها وصورها البصرية لتحقيق المتعة الروحية الحالمة والمنفعة الفكرية بتوليد الاسئلة المتوالية..
اشارات لابد منها:
يوم الدينونة = يوم الرب حيث يدين الله الناس فيحظى البعض بالمكافأة وينال البعض العقاب..
الترابي= نوع من الابراج(ترابية ومائية وهوائية ونارية).. وقد يكون الانسان..
باب حطة= اقدم ابواب المسجد الاقصى..
رسامو عصر النهضة=ليونارد دافنشي ومايكل انجلو ورفائيل ورامبرانت..
الخيمائيين=وهم الذين يعتمدون الرؤية الوجدانية في تعليل الظواهر ويفسرون الظواهر الطبيعية ظواهر خارقة ترتبط بالسحر(علم الصنعة)..
خمبابا=رجل اسطوري بقوته الخارقة عينه الاله انليل حارسا لغابة الارز في ملحمة كلكامش..
هاروت وماروت= رجلان صالحان نزلا في ارض بابل اطلق عليهما من باب التشبيه ملكِين او ملَكين ابتلاهما الله بالسحر..وورد ذكرهما في سورة البقرة آية/102..