ترجمة واعداد آمال ابراهيم
غالبا ما تشير الفراغات في النتاجات المكتوبة كالفصول والأجزاء والفقرات والوحدات الكتابية الأخرى الى هيكلة النظام الخاص بنصوص المادة المعالجة. وغالبا ما تمثل كتلا لدلالات المعنى في الوحدة المنفصلة. إن المسافات الموجودة في الصفحات تمثل حدود الكلمات والترويسات الرئيسة والثانوية والهوامش والفقرات والمقاطع المتتالية، وإن مهمة هذه المسافات تكمن في التنظيم البصري لعملية الاستيعاب والإدراك لأنها تتولى توجيه العين والعقل في أثناء القراءة.
أما في النصوص الخطية والتي من ضمنها (الشعر) فإن المسافات والفراغات بين أجزاء النص وكلماته ومقاطعه الشعرية ترتقي بمهمة أكثر تعقيدا، فهنا تخلق تتابعا نغميا ووحدات أدق لبناء المعنى. وكما بين اندرو أم روبيرتز وزملاؤه فإن البياض المدرج ضمن النص النثري يوازي في أهميته التشكيل أو الضبط. وعلى أية حال فإنه في الشعر المعتمد على التوزيع البصري كما يتجلى في القصيدة الكونكريتية أو الكتلية، فإن فاعلية الفراغ تتعدى ما ذكر أعلاه ليستثمر النص بنحو أكبر من خلال اجتياحه المساحات الفاصلة بين المقاطع والجمل والكلمات ليصل التقطيع الفراغي إلى الحرف نفسه.
يذكر (روسيل ويست-بافلوف) في مفتتح مؤلفه (نظرية الفراغ) إن الانتباه الى التوزيع الفراغي في النص الأدبي لم يظهر إلاّ مع انتشار تقنيات التواصل الحديثة. فعلى حد تعبيره إن الكاتب انتبه الى المسافات والفراغات بين أجزاء النص في عصر الكمبيوتر والمعالجة اللغوية الألكترونية. وهنا يؤخذ على بافلوف أنه لم يهمل القارئ فقط وإنما أهمل التساؤل القديم حول أهمية الفراغ في النص الذي بدأ ينتشر منذ 1897، على يد الشاعر الرمزي الفرنسي (استيفان ميلارميه) عندما نشر في الصحيفة الفرنسية (كوزموبوليس) قصيدة مؤثرة استثمر فيها مساحات بيضاء توجه القارئ إلى فحوى النص بقوة وعنه يقول (ميلارميه): «تكمن أهمية الفراغات في أنها تمثل الصدمة المباشرة للنص». هنا سجل الشاعر الفرنسي ريادة في استثمار البياض ليثبت أنه لا يقل تأثيرا في القارئ من الأحرف المطبوعة السود ولا تفوّق للأخيرة على الأولى.
إن ثورة (ميلارميه) على الاستثمار المعتاد لسطح الورقة فتح آفاقا جديدة في التعبير الشعري. فقد غيرت الأشكال التي تنتظم فيها الكلمات وتتجمع الى قيمة شعرية في حد ذاتها. والأبعد من ذلك، ذهب إلى استغلال الأشكال الطباعية في التاثير التعبيري للكلمة من خلال أدائها المظهري بمعنى آخر، إن طبيعة الخط ونوعه واختياره رقيقا أو غليظا أومعتدلا أو مائلا يجرّ إلى لحظة الكتابة والتعبير إمكانات مضافة للتأثير في القارئ. فقد أصبحت الإمكانات الطباعية أدوات إضافية للتعبير. وهنا فإن على القارئ أن يلي هذه التنوعات اهتماما يوازي اهتمامه بالمادة المكتوبة فهنالك رسالة توجهها الكلمات وأخرى موازية توجهها الأشكال الشعرية والتوزيع الفراغي في النص.
في الشعر المرئي تتحول المساحة البيضاء الى ما يصفه (نيلسون جودمان) إلى حقل من الإشارات « المكثفة» وكما بينه في دراسته الموسومة ( لغات الفن): إنه منهج في نظرية الترميز، حيث يحيط بالمميزات المختلفة للأنظمة الدلالية للصور والألفاظ. توسع القيم الفراغية من ذخيرة التعبير الشعري من خلال إضفاء الإيحاء الصوري على عالم النص ليحملنا إلى ما وراء التعابير المكتوبة حيث الرمزية العالية والتصور.
بعد أن درس علماء النفس التأثير الفراغي وأثره على استقبال النص من خلال متابعة حركة العين وفاعلية أجزاء معينة من الدماغ، يبقى السؤال: ما الذي يحصل على المستوى العقلي أو الإدراكي عندما يتم دمج الشفرات البصرية مع اللفظية؟ فكيف تتم «قراءة» خصيصة البياض ضمن الشعر المرئي أو المكتوب وما الذي تعنيه بياضات النثر بالنسبة للمتلقي؟
تقول ( فيرجينيا لا شاريه) صاحبة الدراسة النقدية المطولة والنادرة التي عالجت قصيدة (مالارميه) الفراغية (Un Coup de des): إن البياض هو الخلاصة التي لا يمكن شرحها، والنقاء الذي لا يمكن تجربته، إنها لحظة الصدق التي لا تلد غيرها، فالبياض في النص لا شكل له ولاحدود،لأنه حالة أصيلة وهو مكتمل بحد ذاته. الفراغ في النص الخطي هو مساحة الحرية التي لا اتجاه لها …إنها احتمالات مفتوحة للمعنى لغياب الشرح والتفسير. بينما يشير (ويست بافلوف) في الإطار نفسه: إن الفراغ أو البياض ليس إشارة وليس له معنى محدد، الفراغ كالصمت تماما…كلاهما يثير الخوف.
تعتبر قصيدة ( يوجين كومرينجر) ، سيلنسيو، أو الصمت، من أشهر القصائد الكونكريتية التي اخترقت جميع الأشكال النثرية المعروفة إلى ذلك الحين من خلال تكرار كلمة (سيلينسيو) مع تركيبٍ فراغي مقصود. إن هذه القصيدة وغيرها كانت من النماذج التي اختيرت لإجراء اختبارات علمية تعزز الاعتقاد النظري والشفهي بأن للمساحة والبياض في النص النثري وتحديدا الشعر الحديث أثر واضح في التلقي والانفعال وتوليد الحوار الداخلي بين القارئ والنص.
وربما يتساءل القارئ عن ماهية التجارب العلمية التي من الممكن أن تحول الانفعالات الحسية والقرائية إلى داتا مدونة ومحددة بأرقام ومنحنيات تحليلية، هنا سنحاول وبإيجاز شديد تسليط الضوء على بعض من هذه التقنيات التي أدت نتائجها إلى دراسات جادة في البياض النثري. هذه التجارب التي خاضها الباحثون ضمن مشروع ( الشعر ما بعد النص) أثيرت من خلالها اسئلة منها: كيف يتعامل القارئ مع البياض من ناحيتي التفاعل مع النص واشتقاق المعنى؟ هل من الممكن فعلا قراءة البياض؟ في حال أمكننا ذلك، كيف سيؤثر في معنى النص؟ هل يضفي البياض غموضا على النص؟ هل يزيد من احتمالات وإمكانيات التفسير أم يضيق على التفسير الخناق؟ في التجارب الآتية تم التركيز على الوظيفة الفراغية أو تاثير البياض النثري على عملية التلقي أو القراءة.
في مختبر رصد حركات العين، تم عرض قصائد مختلفة الأشكال وأساليب توظيف الفراغات فيها على كتاّب ومهتمين بالشعر والأدب، وقد عرضت النصوص على شاشة الكمبيوتر المزود بهذا البرنامج. وسجل البرنامج الوقت الدقيق لاتساع البؤبؤ وزمن الاتساع المعين ومكانه من النص إضافة إلى حركة العين. بعدها طلب من المشاركين ملء استبيان خاص بالتجربة وتبين انه كلما كان النص خطيا سجلت العين حركة من الأعلى باتجاه الأسفل ومن اليسار باتجاه اليمين. لوحظ إصابة المشترك بالارتباك من خلال تسجيل حركة عينيه عند تكافؤ القوة اللفظية مع الشكلية في القصيدة. لوحظ وبنحو ملفت أن القارئ يركز عينيه في المساحة الفارغة وهو يحاول الاهتداء الى معاني النص وتفسيره وكان ذلك جليا في قصيدةإ silencio
اعتمدت منهجية أخرى لاختبار آراء فيرجينيا لا شاريه التي ذكرناها آنفا من خلال أخذ مقتبسات عن كتابها كاستبيان لآراء المشاركين، هذا طبعا بعد أن وضعت قصيدة ميلارميه للتجربة: un coup de des jamais n>abolira le hasard ، وركزت التجربة حول بوصلة الفراغ في النص وكيف استطاع أو أخفق في عملية إرشاد القارئ أثناء القراءة. وبينت النتائج أن لا دليل معتدا به ويعزز من الاعتقاد أن استخدام ميلارميه للفراغات والتقطيع الذي اعتمده قد استقبل بنحو سلبي من قبل المشاركين بالأبحاث. كما إن الوصول إلى مرحلة التحدي ليست مثلبة على الفراغ بقدر ما تسجل حالة التفاعل الخلاقة مع النص والكاتب.
استنتج الباحثون من سلسلة مطولة من التجارب العلمية أن ما يولده التكاثف في الألفاظ والاستغلال الأكبر للمساحة البيضاء بالمادة المطبوعة تسبب الخرق أو الضيق والنفور نفسه الذي يسببها البياض المبالغ فيه أو الموضوع في غير محله. وتبقى التجارب والتساؤلات تتبادل الأدوار في اعتلاء عرش التفوق من ناحيتي الشكل والمعنى للنص الحديث وبياضه النثري.