منذ التغيير الشامل في الحياة العراقية بكل مفاصلها , والانطباع كان يمتد الى ( الشريان الادبي العراقي ) الذي كان ولعقود طويلة من الزمن يغذي كل جوانب الادب العربي من المحيط الى الخليج حينما كانت بغداد توصف بأنها العاصمة الاكثر قراءة , وغزارة في الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلي , وظلت الى جانب شقيقاتها ( القاهرة وبيروت ) من اهم عوامل المحافظة على لغة الضاد والمنجز العربي عبر تأريخة من امرء القيس وعنترة العبسي وطرفة بن العبد مرورا بسلسلة يستحيل حصرها وعدها تمتد من هناك لتقف سويعة من الزمن على ( شناشيل أبنة الجلبي ) لتستريح وتعيد حسابات الزمن وماجادت به الاقلام والقرائح والعقول وافئده العشاق وارهاصات دجلة والفرات , وتنهيدات بغداد التي أبت ان ( تلقي ثوب عزتها برغم كل ماكان ينتابها من ألم المخاض العسير لسنوات القحط والجفاف والرصاص والعزلة , ولان الذين ( غادروا ) بغداد كثيرون من مفكريها وادبائها وشعرائها من الذين لم يرتضوا ان يدخل أي منجز لهم تحت عباءة السياسة أو عسكرة الكلمة والحرف , كان الانطباع ان تحدث بعد 2003 ثورة أدبية كبرى مردها عودة أدباء المنفى ليؤسسوا لمدارس ادبية جديدة تعيد وصل الحلقة التي يرى الكثير ان قطعت منتصف ثمانينيات القرن الماضي , وبعين المراقب للمشهد أرى ان ماكان مرجواً لم يحدث الا من خلال نتف قليلة هنا أو هناك , فالعائدون للوطن من التصنيفات الادبية التي ذكرتها كانوا قلة قليلة جداً قياساً بمن نعرف ونسمع عنهم , ولم تحدث تلك الثورة الادبية التي توقعناها , يلقي الكثير باللوم على عدم وجود رؤية واضحة للعاملين على اعادة المشهد الادبي , واخرون يبررون بعدم جدية المؤسسات الثقافية في بناء نفسها او الاهتمام بالمثقفين والادباء في غمرة سباق متسارع نحو السياسة اكثر من الادب , مع كل ماذكرت انطلقت القصيدة العراقية من جديد , وشرع ( النجارون ) بتصميم وعمل ( المنابر ) الشعرية !! ووجد الادباء العراقيون في الداخل انهم المعنيون الاكثر بالمحافظة على ارثهم وتأريخ الادب في بلادهم واعادة بلورته من جديد , فصاروا يشكلون اداة ضغط على المتصدين للمؤسسة الثقافية بشتى مسمياتها بأن يوفروا أبسط مقومات مايحتاجه الشاعر والاديب والفنان ,, شارع ادبي , قاعة للعرض , متحف ولوحة , والبقيه لهم يتكفلون هم ويتعهدون بأن تعود مياه الادب النقيه تجري وتنساب مثل دجلة والفرات , وبالفعل , فلمسات قليلة وضعت لشارع ( المتنبي ) وبضع احجار مقرنصة وتوفير مسحة امان كانت كفيلة بأن تجعل دجلة الخير بفتح احدى روافده يوم الجمعة ( حصراً ) ليغتسل بها عشاق الادب الذين صاروا يقررون من ساعات الخميس المتأخرة ان يكون صباحهم تحت تمثال المتنبي , وفطورهم من ( كبة السراي ) وشايهم من ( مقهى الشابندر العتيق ) , هذا المشهد هو ساحة العرض ليوم الجمعة , اما بقية ايام الاسبوع , ولان العطش والجوع والنهم الادبي عند العراقيين لاينتهي , فقد اخذ ( اتحاد الادباء العراقيين ) مسؤوليته تجاه ذلك ,تنوعت جلساته , وتعددت اقسامه على غير المعتاد , نواد للسرد , للقصة , للشعر , لنازك الملائكة , حتى الاذاعيين والتلفزيونيين كان لهم حصة في يوم من ايام الاسبوع , بل لقد نحى الاتحاد نحو منعطف جديد لم يسبقه اليه احد حينما قرر منتدى ( نازك الملائكة ) في خطوة جريئة ان ينقل جلساته الشعرية خارج قاعة الاتحاد ( الجواهري ) مستهدفا قاعات الكليات والمعاهد , وكان هاجس البعض هو عدم تحقق الجمهور ( السميع ) على حد وصف الاشقاء المصريين ,غير ان الحضور كان مذهلا , ومتفاعلا , ومؤثراً بل ومساهماً في كلية الاداب بجامعة بغداد وكلية التربية ومعاهد المعلمين والمعلمات , في حين شكلت عودة ( مهرجان المربد الشعري ) انعطافة تأريخية في الحركة الادبية العراقية المعاصرة , فأحتضنت بغداد والبصرة وواسط المتنبي , الشعراء العراقيين والعرب , أنه تحدي الانسان للطبيعة التي يريد البعض ان ( يجيرها ) لهذا الغرض او تلك الغاية , انه تحدي الفكر الحر والادب الباقي على مر العصور والازمنة , انه المخاض العسير للحركة الادبية العراقية التي تولد دائماً بعد كل هزة من هزات رياح سرعان ماتزول , انها شمس الحقيقة التي تأبى الافول , شمس تريد برغم ( قسوة حرارتها ) أن تظل كما وصفها حبيبها السياب يوما ما بأنها ( الاجمل في بلادي من سواها ).
ناهده الدراجي
المتنبي واتحاد الأدباء.. انطباعات
التعليقات مغلقة