عامر حسن شنتة
قاضي عراقي
اذا كان القاضي عند تصديه للعملية القضائية وإصداره للأحكام يهتم بأمور ثلاثة اولها تحديد الواقعة محل النزاع ،وثانيها تكييفها قانونياً ،وثالثها انزال حكم النص القانوني على الواقعة = فأن البعض يضيف الى تلك الامور الثلاثة بعداً رابعاً ينبغي للقاضي ان يراعيه عند اصداره للأحكام الا وهو البعد الانساني والاجتماعي.
يقول الفقيه الانجليزي داياس Dias في كتابه علم اصول القانون أن «طبيعة الدعوى تتطلب اختبارًا وتقديراً تحدوهما قيم معينة ، فليس القضاة كما كانوا في الماضي صورة العدل المعصوب العينين ،بل يجب ان تكون عيون القضاة مفتوحة وأناملهم موضوعة على كل عرق يدلهم على حالة النبض الاجتماعي».
ذلك ان للقضاء شأنه شأن أية مؤسسة اخرى ، وظيفة اجتماعية يهدف الى تحقيقها .ولعل اهم مظهر لتلك الوظيفة ،هو اشاعة العدل بين الناس وصولا لمجتمع يأمن فيه الافراد على حقوقهم. أذ تعد احكام القضاء بمنزلة رسائل طمأنينة وسلام يبعثها لعامة الناس لتسهم في تحقيق السكينة والسلم الاجتماعي .
ويبين فقهاء القانون ان هناك حقيقة قضائية مستمدة من حيثيات النزاع المعروض على القضاء والتي قد لاتتفق بالضرورة مع الحقيقة الواقعية التي يمثلها ذلك النزاع. ولاحرج على القاضي اذا ماتبين عدم اتفاق الحقيقتين (القضائية والواقعية) في الحكم الذي يصدره متى كان حكمه مبنياً على ادلة ووقائع يدعمها ظاهر الحال.
غير ان القاضي حين يراعي البعد الانساني والاجتماعي في احكامه يقترب كثيراً من الحقيقة الواقعية .ولكن هل ان المساحة التي يتحرك فيها القاضي في الدعوى الجزائية لتحقيق هذا الهدف، تشابه تلك التي يتحرك فيها في الدعوى المدنية ؟ ام انها تختلف (ضيقاً واتساعًا) بحسب السلطة الممنوحة له؟
لاشك ان نظام الاثبات في كلتا الدعويين يقودنا الى ذلك الاختلاف، ففي الدعوى المدنية يتولى الخصوم عبء اثبات دعواهم من خلال مايقدمه كل منهم من ادلة اثبات او نفي ، ويتجلى دور المحكمة في وزن تلك الأدلة وترجيح احدها لاصدار حكمها. في حين ان القاضي في الدعوى الجزائية يتولى التحري وجمع الادلة في مرحلة التحقيق من دون ان تكون لديه صلاحية مناقشتها، وهي المهمة التي تتولاها محكمة الموضوع في مرحلة المحاكمة.من ذلك يتضح ان تلك المساحة تتسع في الدعوى المدنية، وفي مرحلة المحاكمة في الدعوى الجزائية ،وتضيق كثيرًا في مرحلة التحقيق.
ومن أهم مظاهر الاقتراب من البعد الاجتماعي والإنساني في الدعوى المدنية ، تلك التي تظهر في قرارات محاكم الاحوال الشخصية،لتعلق الكثير منها بشريحتي النساء والاطفال في دعاوى النفقة والحضانة والطلاق وغيرها ،والتي يملكها القاضي استناداً للسلطة المخولة له في المواد (1-5) من قانون الاثبات وقانون الاحوال الشخصية .اما في الدعوى الجزائية فأن تلك المظاهر، قد تأخذ جانباً انسانياً تمليه ضرورة الرأفة والرحمة بمن جنح عن الصواب وقارف الجريمة لإعطائه فرصة جديدة (للحياة) كمواطن صالح في المجتمع .فيمكن تلمسها في الأحكام الواردة في قانون العقوبات ،وبالذات تلك المتعلقة (بالظروف القضائية المخففة) المواد (132-134). وبوقف التنفيذ المواد (144-149) .والاحكام الواردة في قانون اصول المحاكمات الجزائية،والمتعلقة بالصلح ووقف الاجراءات القانونية ،المواد (194-200).وقد يكون الاثر الاجتماعي المنشود من الحكم يتطلب تشديدًا للعقاب، لتطمين وجدان المجتمع الذي انتهكت الجريمة امنه وسكينته .وذلك مانجده في الاحكام الواردة في قانون العقوبات وبالذات المواد (135-143)منه.اذ لايتحقق البعد الاجتماعي دائماً بالركون الى اسباب الرأفة والرحمة بمن قارف الجريمة .وانما يقتضي الامر الموازنة بين تلك الاعتبارات وبين اعتبارات آمن المجتمع وسلامته..
البعد الرابع في الأحكام
التعليقات مغلقة