عبد الله جنّوف
أردت إدخال الدجاج في القنّ، فامتنع الديكة الأربعة، ثمّ دخل هرم وشابّان بعد مطاردة ومحاصرة، وأبى الرابعُ. وكلّما حاصرته حلّق كرئيس هارب، فتركته… رجعت بعد ساعة ففهمت أنّه قفز عاليًا ولم ير شبكة سمك أمنع بها الحمام المتطفّل من نهب طعام الدجاج، فعلقت فيها رقبته واختنق قبل أن أصل إليه.
حزنت على ثلاثين دينارًا، وطعام شهرين كاملين، وعثرات كثيرة في المطاردة، فعاتبت جثّته ووبّختها، ثمّ أخذته لدفنه، وكان معي صديق فقال: ألا ترى الدجاجات؟ قلت: وما الغريب في حركتهنّ؟ يأكلن ويشربن كأنّه لم يمت ولم يوجد. ألا تعلم أنّ الدجاج سريع النسيان، وأنّ فيه غلظة وقسوة لا تناسبان جماله وحمقه. وأعجبتني ثقافتي فحدّثت صديقي عن الدجاجة التي رأيتها تنقر فرخها المريض حتّى قتلته. وقصصت عليه خبر ديكين شقيقين اشتريتهما صغيرين، وربّيتهما في قفص واحد، فكانت بينهما ألفة وصداقة، فلمّا شبّا أدخلتهما على الدجاجات، فنسيا كلّ ما بينهما من المودّة، واقتتلا بلا رحمة، فرقّ قلبي لمن لاحت هزيمته، فأخرجته من القنّ وذبحته.
فقال: ولكنّي لم أر أعقل من الدجاج… لم تكترث دجاجة واحدة لموت الديك، ولم تحزن عليه، ولم تلطم، ولم تتبع جثّته، ولم تسمّ قفزته غير المحسوبة ثورة وشهادة. وليس في القنّ من الدجاج إلّا ما نسمّيه الدجاج العربي، فكيف بحكمة السلالات الأخرى؟
المرّوكي
ذهبت إلى السوق لأشتري ديكًا بدل المنتحر، فمررت بامرأة ملثّمة بين يديها ديك ضخم لم يدخل مثله القنّ. سألتها: هذا ديك عربي؟ قالت: “لا، هذا مرّوكي، ما شاء الله”… دفعني جهلي به وإغراءُ صاحبته واقتناعي بكلام صديقي إلى شرائه. ولمّا دخلت ساحة المنزل قفز من صندوق السيّارة، وخشيت أن يطير فوق السور ويفرّ، فاضطررت لإخراج الدجاج كلّه ليختلط به ويدخل القنّ… كان خائفًا من الديكة يختلس طعامه وشرابه ويكبت غريزته ويقف وحيدًا مسالمًا، ولكنّني كرهت رقبته المكشوفة المخطّطة وساقيه الطويلتين ومنقاره المشروم وصوته الغليظ… وكنت أذهب إلى الدجاجات كلّ يوم قبيل الشروق لإطعامهنّ، وأتوقّع في كلّ يوم أن أجده واقفًا في الباب يدخّن الكرِيسْطَالْ… ثمّ وجدته يومًا نافشًا ريشه بين الدجاجات، ولم أفهم كيف انقلب على الديكة الثلاثة فأذلّ المسنّ، وطرد الشابّين من القنّ الفاخر إلى الممشى المكشوف… وفشلت محاولاتي لحملهم على استعادة سلطتهم…
دمّر أعصابي بصياحه وبحّته القبيحة، فدخلت القنّ، وتقافزت الدجاجات في صياح واضطراب لا أعرف علّتهما، وبقي المرّوكي وحده، رأسًا لرأس، فعملت بحيلة علّمنيها الصبيّ: انحنيت كأنّني سأقبض عليه، فطار ليتجاوزني، فأخذته وهو طائر، وذبحته.
الديك الهرم
أقْدمُ ديكة القنّ ديك جميل الريش، حسنُ التاج، وقورٌ، رأيته في صندوق أحد الباعة، فأعجبني واشتريته بصندوقه. فلمّا عدت إلى المنزل ورأيت ساقيه اكتشفتُ أنّه هرمٌ. غرّتني حمرة عُرْفه ولمعان ريشه، مع معرفتي بأنّ ميزان الديكة سيقانهم. كان هذا الديك بطيءُ الحركة كثيرُ الإطراق، لم يأكل شيئًا، ولم يدخل مكانًا، ولم يخرج منه إلّا بعد وقوف وإطراق كالمفكّر، حتّى خيّل إليّ أنّ فيه روحًا آدميّة. وكنت أظنّ أنّه يحسب لكل شيئًا حسابًا. راقبته مليًّا، فوجدت منفعة تفكيره لغيره لا لنفسه.
وجد يومًا فجوة في القنّ، فصوّت للدجاجات، فاجتمعن عليه، وجعل يبحث في الأرض عند الفجوة، فخرجن منها وأنا أنظر إليهنّ، ولمّا أراد الخروج وجدها أصغر من جثمانه، فبقي محبوسًا وحده يومًا كاملًا.
ولمّا كثر الحمام المتطفّل، وأكلت الشمس الشبكة، وضعت له مصيدة: حفرة عميقة عليها غطاء متحرّك عليه قمح ملصق بغراء، فإذا وقفت عليه الحمامة مال بها فوقعت في الحفرة ولم تأكل قمحة واحدة، وعاد الغطاء كما كان… رأى الديك القمح فوقف ينظر إليه ويحرّك رأسه يمينًا وشمالًا، كتونسيّ أمام نصبة دلّاع، ثمّ دعا الدجاجات وقفز على الغطاء فوقع في الحفرة، وهربن، فتركته فيها يومين.
ولمّا سيطر المرّوكي على القنّ، وطرد الديكين الشابين إلى الممشى المكشوف، ترك الديكَ الهرم يأكل ويشرب ويقف مع عجائز الدجاجات وينام على الأرض. راقبتهما أيّامًا فلم أعرف سبب سكوت المرّوكي عنه. واطمأنّ الديك المسنّ، فقفز على مجثم كان يألفه قبل قدوم المرّوكي ونام، فاقترب منه ونقره على رأسه نقرة طرحته أرضًا.
أخرجته من القنّ ووضعته في قفص صغير لعزل المرضى، وتركت القفص مفتوحًا ليخرج متى شاء إلى الحديقة، فلم يكن يغادره إلّا ليقف في باب القنّ منكسرًا، ثمّ يعود إلى قفصه. ولم يغيّر سلوكه بعد ذبح المرّوكي، فظلّ في مكانه ينظر إلى دجاجاته ومجثمه من بعيد.