كمال عبد الرحمن
التمرد هو صناعة الاختلاف في النص الشعري، وهو الرافض المغير في الثوابت والمألوفات، والرفض هو سلاح التمرد، وهو نوع من هتك المستور، وهو ما يؤسس لهوية ابداعية مغايرة للتقليد ف( الهوية في المنظور الابداعي، ليست في انتاج الشبيه، وإنما في انتاج المختلف، وليست الواحد المتماثل، بل الكثير المتنوع، فالهوية ابداع دائم ــ تغلغل مستمر في فضاء التساؤل والبحث، الفضاء الذي يفتحه السؤال: من أنا؟ لكن دون جواب أخير، حتى الموت نفسه هنا ليس الا جوابا مؤقتا) وبتعبير آخر، نقول ان الهوية ابداعيا، هي ان تحيا وتفكر وتعبر كأنك أنت نفسك وغيرك، هكذا يبدو الانسان، في الابداع مشروعا لا يكتمل، ولا يعود الاخر أجنبيا عن الذات، وإنما يصبح بعدا من ابعادها، أو يصبح صورتها الثانية، يقوم شعر روضة الحاج في الغالب منه على الرفض والتمرد وتطبيقا لما أسلفنا أعلاه:
((اليوم أوقن أنني لن أحتمل
اليوم أوقن أن هذا القلب مثقوب.. ومجروح.. ومهزوم
وإن الصبر كل
ولوح لجة حزني المقهور.. تكشف سوقها كل الجراح وتستهل
هذا أوان البوح يا كل الجراح تبرجي
ودعي البكاء يجيب كيف وما وهل
زمنا تجنبت التفاؤل خيفة.. فأتيت في زمن الوجل
خبأت نبض القلب
كم قاومت، كم كابرت، كم قررت
ثم نكصت عن عهدي.. أجل
ومنعت وجهك في ربوع مدينتي.. علقته
وكتبت محظورا على كل المشارف.. والموانئ.. والمطارات البعيدة كلها
لكنه رغمي أطل)) قصيدة ــ اليوم أوقن أنني لن أحتمل ـــ
منذ أن انطلقت مقولة ( الشعراء مشرعو العصر) أو قبل ذلك بكثير، كان على الشعر أن يأخذ دوره في الحياة، كراصد ومدقق للتأكد من أن كل شيء يسير في مساره الصحيح، وحينما تنحرف الأحداث عن جادة الصواب، تنبري القصيدة منتفضة بوجه الحالات الخربة التي تنتج مواقف فاسدة أو العكس صحيح، فتمرد القصيدة حاجة ملحة لتعديل مسار خرب، أو سياسة فاسدة، أو فضح الطواطم المعاصرة .
ان بنية القصيدة المتمردة في شعر روضة الحاج، تبنى من مجموعة ضوابط، أولها: شخصية الشاعرة ووعيها وثقافتها وانسانيتها التي تغلب على كل انسانية، والثاني: قدرة الشاعرة على توظيف نصوصها الرافضة توظيفا فنيا راقيا، يتناسب مع عظمة الحدث وردود الافعال، والثالث: ينبغي الطرق على الحديد وهو ساخن، وإلا أية انتفاضة فكرية أو ثورة شعرية في استراتيجية ( زمكان) غير مناسبة، قد تسيء الى قدسية هذا التمرد، وتفشل مساعي القصيدة في بلورة موقف ما لصالح التمرد الجاد والرصين، والرابع: هو التكرار وإدامة الضغط النفساني على الاخر، فلا تنجح ثورة بكلمة واحدة، ولا تقوم انتفاضة بإشارة صغيرة، الشعر المتمرد هو الكلام الذي لا يشبهه كلام، وهو الكلام الذي يُحرق ولا يحترق:
((أسفي على الخيل المطهمة الأصيلة حمحمت
تشكو وتشتاق القنا، لكنهم خنساء ما كانوا هنا
ذهبت قريش لمهرجانٍ للغناء وبنو تميم سافروا
للسين يصطافون هذا العام لا يأتون إلا في الشتاء
ولعلهم قد أبرقوا.. أعني بنو ذبيان
إن زعيمهم خسر المضارب في الرهان وإنهم
سيراهنون على النساء!!
خنساء ما جربت كيف يصاب حزنك بالصمم
ويبح صوتك من مناداة العدم ويضيع ثأرك خاسئا
في مجلس للأمن أو في هيئة تدعى الأمم))ــ قصيدة(رسالة إلى الخنساء)
لاشك أن التمرد هو حاسة انسانية يتفرد الشعراء في امتلاكها، كونهم يحملون وعيا فوق الوعي، وأحاسيس خارج قدرة التقليد على وصفها، لذلك نرى الشاعرة روضة الحاج لها القدرة على صنع خلخلة ثورية داخل المشاعر الانسانية، فصوتها ثورة ، وشعرها انتفاضة (إن التناقض بين كوننا شكلا في العالم الحديث وبين كوننا جوهرا في خارجه، يضطرنا الى معاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث، ومعاناة قضايا عالم حديث في مجتمع قديم، ففي التعبير عن معاناتنا تلك نعرّض انفسنا لإنتاج أدب يجده القارئ الحديث بعيدا عن قضاياه ومشكلاته، وفي التعبير عن معاناتنا الأخرى، نعرّض انفسنا لإنتاج أدب يجده القارئ العربي مستوردا غريبا)،لقد تمردت الشاعرة الحاج، عندما وجدت ان ما بذاكرتها منذ الطفولة الى الآن من مبادئ فارهة وتقاليد فارغة ليست حقيقية، وأن هذه الشعارات التي كانت تضج بصدرها وتشع من قلبها عن الوطن الواحد والارض الواحدة والشعب الواحد ليست أكثر من كلمات في كتب القراءة التي يدمنها الاطفال ولا يعرفون طبيعة حقيقتها المؤلمة المؤسفة الا عندما يكبرون، لقد احدثت ثقافة الشاعرة ووعيها العالي شرخا كبيرا بين قناعاتها الخاصة وبين قناعاتنا أيضا وبين ما هو سائد من أفكار ومرجعيات قديمة تتضارب مع واقعنا الأليم، فانتفضت قصيدتها المتمردة:
((كصغيرة، حلمت بأن العيد خبأ في يديها حلوتين، فأستيقظت فرحاً
ولما لم تجد شيئاً بكت حزناً، ألحت في البكاء
الريح كانت تطرق الشباك، في صلف عنيف
الرعد والمطر المزمجر والشوارع خاليات والرصيف
كل الحوانيت الصغيرة والكبيرة مغلقة وصغيرة الكفين تمعن في البكاء
جاءوا لها بعروسة، وكتاب ألوان وماء، فأبت، تفتش مهدها تريد الحلوتين
هتفوا بها زجراً، فدست وجهها، جثت تكتم، إنه الصدر النحيف)) قصيدة الصغيرة وقطعة الحلوى
وكان من نتائج الشرخ الاجتماعي والسياسي والثقافي في بعض الأنظمة السياسية أن انطلقت ثورة نفسية كبرى من أعماق الشاعرة تؤسس للتمرد الواعي، وهذا التمرد يُعد من أهم علامات الشعر العربي على نحو خاص، حيث ان النص (الأشكالي/ الاختلافي) الذي تبتكره قصيدة روضة الحاج يشكل مشهدا شعريا خصبا ومتنوعا الى حد كبير بفضائه وعطائه وخصوصيته، لقد تمردت الشاعرة بما معروف عنها من جرأة وشجاعة من العنوان الى الختام فيقول:
((عبثاً أحاول أن أزّور محضر الإقرار، فالتوقيع يحبط حيلتي
ويردني خجلى وقد سقط النصيف، أنا لم أرد إسقاطه
لكن كفي عاندتني، فهي في الأغلال ترفل والرفاق بلا كفوف
أما البنان فما تخضب، منذ أن طالعت في الأخبار أن حاتم الطائي أطفأ ناره
ونفى الغلام لان بعض دخان موقده تسبب في المجيء بضيف
ورأيت في التلفاز سيف أسامة البتار ينصب قائماً
في ملعب الكرة الجديد بنقطة أقصى جنيف وسمعت في الرادار
كيف يساوم بن العاص، قواد التتار يحددون له متى، ماذا ويقترحون كيف
طالعت في صحف الصباح حديثه، قالوا: صلاح الدين سوف يعود من نصف الطريق
لأن خدمات الفنادق في الطريق رديئة ولأن هذا الفصل صيف!!
الله حين يكون كل العام صيف، الله حين يكون كل العام صيف
الله حين تساوت الأشياء في دمنا وقررنا التصالح وفق مقتضياتنا
تباً لمن باعوا لنا الأشياء جاهزة وكان الفصل صيف!!
خجلي، لقد سقط النصيف ولم أرد إسقاطه
لكنما كفي إلى عنقي وقدامى هنا نطع وسيف
عجبي، لقد نزعوا الأساور من يدي وتشاوروا
بالضبط تصلح للمحرك في مفاعلنا الجديد
على اليسار، فأحضر لنا (كوهين) ألفا غيرها
بل زد عليها قدر ما تستطيع من قطع الغيار
خجلي، لقد سقط النصيف ولم أرد إسقاطه
لكن كفي في الحديد ولا أرى غير الغبار)) قصيدة بلاغ امرأة عربية
وواضح أن الشعر عند روضة الحاج قد أصبح أداة كشف وإثارة وتعرية وثورة على كل ما في داخلها وما حولها أو خارجها(( أي الداخل النفسي والخارجي الموضوعي)) ان الجرأة الكبيرة التي امتلكتها الشاعرة روضة جعلتها قادرة على كشف الحقيقة الداخلية للإنسان/ الحيوان الذي يدعي الفضيلة والاخلاق الحميدة والشرف الرفيع وهي جميعا أكاذيب في رأي الشاعرة التي قررت أن تفضح المسكوت عنه وتدينه، واذا كان بالإمكان ان يقال ان الشاعر الفلاني نسيج وحده، فإن شاعرتنا بالفعل هي نسيج وحدها، على الرغم من طروحات (جوليا كرستيفا)و(جيرار جينيت) وغيرهما، ممن قال بأن النص لا يمكن ان يكون نسيجا وحده، فقصائد هذه الشاعرة فيها الكثير من العلامات التي أرادت بها كسر اللياقة الادبية، ولفت الانتباه الى صوتها الحر وتجربتها الفذة وأطاريحها الانسانية في الحياة، متبينة مقولة (رينيه شار )وهي:((إن من يأتي الى الدنيا دون أن يترك فيها أثرا لا هو بمن يطاق ولا بمن يستحق ان يلتفت اليه))، فالشاعر الحاج قصائدها رائية فعالة في تغيير الكثير من سلبيات المجتمع نحو أنسنة الحياة وتأطيرها بجماليات الوعي والفكر والتقدم.
بنية التمرد في شعر “روضة الحاج”

التعليقات مغلقة