د. سمير الخليل
منذ الاستهلالات الأولى والعنوان العام تضعنا مجموعة (مثل نبي يتوسل معجزة) للشاعر سلام مكّي إزاء تجربة تؤسس لفضاء شعري يستثمر فيه الشاعر أكثر من وسيلة وتوّجه لتتويج نصوص تعتمد على نسق يرتكز على التشفير الموحي واستثمار جماليات الإنزياح والخوض في الغرائبية على مستوى الصورة الشعريّة والتأطير الترميزي، ومحاولة ايجاد مشتركات مع المتلقي عبر الإحالات والإشارات المتنوّعة منها التاريخية والدينيّة، وإضفاء السؤال الوجودي كبعد من أبعاد القصيدة.
ولعلّ براعة الشاعر في التعامل مع اللغة والصورة الشعريّة وترحيل المعاني وتحريك الدلالات جعل النصوص تكتسب نوعاً من الجذب والاستهواء من قبل المتلّقي، وهو يتشابك مع نصوص تضفي غموضاً شفيفاً يحرّك ويحفّز طاقة الاستجابة الانفعالية عند المتلّقي، وتشتغل النصوص بعيداً عن المباشرة والتداوليّة التقليدية في محاولة لنص شعري مغاير وعميق ودال.
لم تتمركز المجموعة حول موضوعات محدّدة وتقليدية إنها تحرث في أرض بكر وتمزج السؤال بالرؤية والتخييل بالواقع والحقيقة بالرمز عبر متوالية من النسق الصوري الذي غالباً ما يتمحور حول رسم صورة فوق واقعية وتقترب من الإرهاصات السيريالية أو الغرائبية كآليّة لتحريض الذهن وتجاوز الواقع الذي لم يعُدْ واقعياً متناغماً مما يجعل التناول أو التمثّل يحاكي هذه العدميّة الداخليّة التي تختزل اغتراب الذات واختلال الرؤى ممّا يستدعي النظر إليها من زاوية المغايرة، ليكون السؤال أكثر الحاحاً والرؤية أكثر وضوحاً، ومن أجل انتاج أفكار ومعانٍ على مستوى هذا الاشتغال المتقدم، ونلحظ روح الاقتحام والنزوع اللاّ مألوف لصنع مجسمات صوريّة ترميزية تعيد انتاج الواقع، وتعيد اكتشاف السؤال الوجودي الذي يمكن خلق النصوص حتى تتحول هذه التوصيفات إلى صياغات تعبيرية تثير الإغراء والتعّمق في الإشارات المعرفية والدلالات الرمزية ومزج الواقع بالحلم، والحلم بالكابوس والماضي بالحاضر والحقيقة بالزيف، وهذه القصديّة في استثمار واستحضار الثنائيات وصولاً إلى متخيّل شعري منتج للصور والدلالات والرموز والإحالات والإنثيالات، مع تأطير لمتعة القراءة المعرفيّة للقصيدة، فالقصيدة حتّى في تناولها للمرأة -في هذه المجموعة- فإنّها تتناولها في نسق خاص ورؤية مغايرة، وليس بقصديّة الروح الغنائية والغزل والجسدانية المستهلكة:
تفتّش في حقيبتها / عن بقايا رجل / أيقن
أنّه مثل شجرة / لم يغرسها أحد
***
امرأة لا تتذكّر سوى النزال الأوَّل
وكيف أن مياه اليأس / تجمعت في غمدها
حتّى استحال بركة / تنتظر صبيّاً
***
امرأة / تدري بأي أرض تموت / لكنها لا تدري
كيف توقف السيول / التي بللّت ركبتيها .. (المجموعة: 83- 84).
هذه هي صورة الأنثى وهي تغرق في واقع مأزوم، والشاعر يرصد صوراً غير نمطية .
ولعلّ من الملامح المهمّة في هذه المجموعة أنها تزاوج بين النصوص الطويلة، وما تتطلّبه من قدرة على السّبك والرؤية المتواترة والمتسّعة، وبين النصوص المختزلة التي تقترب من القصيدة القصيرة أو الإضاءة السريعة الخاطفة.
الفضاء الشعري ومتعة القراءة
التعليقات مغلقة