المزج بين الدرامية والشعرية السردية في “الركض في فراغ “

علوان السلمان
الخطاب السردي نتاج ذاتي لمبدع مسيطر على ادواته الفنية مع اكتناز فكري يكشف عن وعي ينطلق من الحكاية واللحظة ليعيد تشكيلها عبر منطق متفرد بوظائفه ومكنوناته وازمنته..
والقص القصير ابداع يتجلى فيه التكثيف والايجاز والانزياح فتتعدد الرؤى النصية المسهمة في تشكيلاته المتفاعلة ومعطيات الحداثة التي تزحزح النص من ثوابته وتنقله الى مسارات جمالية مستفزة للذاكرة ومحققة للمتعة والمنفعة الفكرية….

وباستحضار المجموعة القصصية(الركض في فراغ) التي نسجت عوالمها النصية انامل منتجها القاص عادل المعموري ..واسهمت دار امل الجديدة في نشرها وانتشارها/2017..كونها ايقاع نابض وحركة العصر بتوظف المفردة المتوهجة ذات الدلالة الخالقة لموقف فكري برؤية متفاعلة والانا الجمعي الآخر… بالتقاطها جزئيات الواقع وتشكيل عوالمها المستفزة لذات المستهلك(المتلقي)..ابتداء من الايقونة العنوانية والعلامة السيميائية التي تشير الى حمولة نفسية مكتظة الدلالات التي تعبر عن صراع الذات والزمن..فضلا عن انها الدلالة المانحة والمحققة لهوية النص والمسهمة في فتح مغاليقه بفونيميها المشكلان لجملة اسمية فرشت روحها على مربع الوقت الدال على الحركة الزمكانية..مع نص اهدائي موازي جامع لايقونات عنوانية شكلت عتبات الدخول للعوالم النصية(عندما تبكي العصافير.. يزورني فارس النار.. يفك أسري من زنزانة قابيل قبل ان يطعنني بخنجره في الضلوع.. الارض لن تموت ما دمت تتنفس عطري.. ارجوك لا تركض في فراغ رجل غيابه اخرس.. ما زلت ارى مقعده فوق ارجوحة الاشباح..) ص5.. وهي تعانق العتبة النصية الممهدة لدخول عوالمها السردية..

( ضغطت بقدمي على دواسة الوقود بكل قوة وانطلقت بها..سمعت طقطقة عظامه تحت قوة عجلات السيارة..اعترتني رجفة شديدة حتى ظننت اني لن استطع مسك المقود باصابعي المرتجفة..استدرت الى الخلف انظر عبر الزجاجة الخلفية..وجدته ممددا بلا ادنى حركة..الدم يسح منه فوق الاسفت..تنفست بارتياح ومسحت وجهي المتعرق الشاحب..ثمة سيارة قادمة مرقت مسرعة دون ان تلحظ شيئا, قبل وصولي الى مشارف المدينة التي اقطنها.. نظرت الى ساعة معصمي..كانت تشير الى الواحدة والنصف صباحا..من المتوقع ان زوجتي لن تنتظرني..قد اجدها تغط في نوم عميق..سأدخل الى البيت خلسة ولن اجعلها تشعر بدخولي..حتما ستعيد علي الموال ذاته ككل مرة عند تأخري عن العودة في مثل هذه الظروف العصيبة.. كانت تقول لي: يارجل لا أمان في هذا البلد..احفظ نفسك من شرور السفلة والمجرمين.. الآن استطعت ان اطمئن لوصولي مشارف مدينتي الصغيرة..ما ان خففت من سرعة السيارة كي استدير في شارعنا الفرعي..سمعت همسا اشبه بفحيح الافاعي يتسلل الي من المقعد الخلفي,الخوف يغرز اصابعه في قلبي من جديد..شارعنا كان مطفىء تماما..تمطى الرعب في جسدي مظللا عيني كي لا ترى شيئا في المرآة..يا لتلك اللحظة التي لا أتوقعها التفت مفزوعا الى الوراء..صوب المقعد.. رايته يجلس خلفي مباشرة وعلى شفتيه شبح ابتسامة غريبة..)ص9 ـ ص10
فالسارد يوظف البنية السردية الغرائبية التي (هي التردد الذي يحسه كائن لا يعرف غير قوانين الطبيعة، في ما هو يواجه حدثا فوق- طبيعي حسب الظاهر) على حد تعبير تودروف..انها الخروج عن المألوف والوقوف امام احداث الواقع ليس لتفسيره بل لإحداث الدهشة والحيرة والكشف عن مستوى تدهور القيم الإنسانية ، إلى جانب قضية أزمة الضمير الإنساني..فكان حضورها في البناء النصي احتجاجا ورفضا لواقع قائم بوعي ابداعي فني جمالي يستنطق اللحظات الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد المعاني من اجل توسيع الفضاء الدلالي……
(خرجت من القاعة بعده بدقيقة واتجهت صوب محل عملي..خطواتي المتعثرة لها صدى في الممر الطويل ودموعي تتسارع على خدي بلا رقيب..الشمس الربيعية تصفع وجهي بخجل.. الضوء المتساقط عبر الواح زجاج الممر تتشكل على هيئات مختلفة..عمود الضوء القريب من الجدار يقف منتصبا كجسد فزاعة في مزرعة مليئة بالاحراش والحشائش اليابسة..سمعته ينادي علي..لم اصدق اذني انه يناديني..لم التفت اليه وحثثت الخطى نحو الامام..سمعت وقع خطواته تتسارع خلفي.. سمعت صوت لهاثه يمزق شغاف انفاسي صاح:لمياء..توقفي ارجوك.. اسمعيني.. لم استكن واسرعت اجري بما املك من عزيمة واصرار على الجري.. خطواته تلاحقني وخطواتي تتعثر بأذيال انتصاري المرتقب..أمسك بذراعي وضمني الى صدره وانفاسه تمتزج بانفاسي..في خطوة اشبه بالجنون.. ضمني الى صدره بكل قوة..عانقني طويلا..لم اكن احسب حسابا فيما لو يشاهدني احدهم الآن وأنا أغفو على صوت لهاثه وهو يضمني بشوق..لا ارى من الموجودات سواه..تلك الجدران التي تضيق بنا انفتحت واخضرت الاحراش الذابلة من خلف الزجاج…عيناي تبصرانه هو لوحده.. نحن الاثنان معا نقتفي اثر الرغبة ونمحو آثار البعد..نختصر مسافات الوجد الممتدة على أفق الفراغ..) ص58ـ ص59..
فالنص تميزه سمات فنية وتكنيكية كالاقتصاد اللغوي متمثلا في الإيجاز والتكثيف والاختزال، إلى جانب استخدام الإيحاء والرمز.. مع مزج بين الدرامية والشعرية السردية بتوظيف الفاظ موحية بعيدة عن التقعر والغموض.. يكشف عنها لفظ(الفراغ) الذي امتلك دلالتين متداخلتين:الدلالة الاولى المسافة الفاصلة روحيا بين ثنائية الوجود..والدلالة الثانية الفراغ العاطفي لدى طرفي الوجود.. (أمسك بذراعي وضمني الى صدره وانفاسه تمتزج بانفاسي..في خطوة اشبه بالجنون ضمني الى صدره بكل قوة..عانقني طويلا..)..اضافة الى ان الزمن أصبح يستمد أبعاده وقياساته من ذات المنتج( القاص) ..
وبذلك استطاع السارد(القاص) خلق لغة سردية معاصرة تخاطب الوجدان الانساني بتفاعلها والحدث الواقعي من خلال ذاتيته المتفاعلة والموضوع والمستفيدة من اللحظة اليومية والخروج بها من المالوف صوب المتخيل لتعميق المعنى في الذاكرة..عبر بنية اشارية قوامها اللغة التي هي(نظام من الاشارات التي تعبر عن افكار..) على حد تعبير سوسير..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة