القسم الثاني
هنا كتبت حنا آرندت عملها عن «ابتذال الشر» أو «الشر مبتذلا». تنهار القيم الأخلاقية للمجتمع كله في ظل مجتمع شمولي. نعم، هناك آيديولوجيا «شرّيرة» تشرعن الشر وتبرّره. لكنها، إذ تسيطر على المجتمع حين تقبض على سلطة الدولة، تنشر قيمها حتى بين من لايؤمن بآيديولوجيتها، بل حتى بين معارضيها وضحاياها. في ظل النازية كان هناك أل «يندريتسه»: شباب يهود يساعدون النازيين. الشر؟ تسأل آرندت آيخمان، وهو مدرك لمصيره، لا يرى في ما فعله غير وظيفة قام بتأديتها بإخلاص. تعاين آرندت المحاكمة فتصف الحاخام اليهودي الذي يلقي خطبا عصماء عن الجرائم: أليس هو غوبلز (وزير إعلام هتلر) اليهودي؟
لم أتوصّل إلى ترجمة أفضل ل The Banality of Evil من «ابتذال الشر»، لكن الترجمة غير دقيقة بالتأكيد. الإبتذال هنا يعني ممارسة الشر كما لو كان وظيفة روتينية، اعتيادية يمارسها المسؤول الأمني مثلما يمارس موظف الضرائب عمله، وظيفة يسعى إلى أدائها بكفاءة لكي ينال رضا رؤسائه ويتقدم في مجال عمله.
الجنرال «كوكز» في رواية الأخرس هو آيخمان بالضبط. طوال الرواية، لا يتحدث كوكز آيديولوجيا: لا يبرر ولا يفسّر ولا يناقش. كوكز فخور بأنه حصل على ثقة القائد بإيلائه مهمة رئاسة «الهيأة العليا للأنتصار على الخوف»، هيأة تشتغل وفق أعلى المعايير العلمية، تدرس جينات قتلى الحرب، تفصل جثث «الجبناء» عن جثث «الأبطال»، تشتغل علميا على تشخيص الفوارق الجينية بين الجبناء والأبطال، تقترب من الوصول إلى حل المعادلة التي تمكّن الدولة من القضاء على جينات الجبن، لكن اختفاء العالمة التي صاغت المعادلة يجبر الجنرال على اللجوء إلى شاعر ليفكّ لغزها.
لا معنى لسؤال الجنرال كوكز أو الشاعر عن مغزى كل ذلك. في النهاية، يكتشف الشاعر أن واحدة من تلك الجثث هي جثة أبيه. ينازعه الجنرال: هي جثة أبي. من هذه الجثث يولد الشاعر والجنرال. في الرواية الموازية أب أيضا. أستاذ عوّاد، مدير المدرسة المتقاعد يستنجد بتلميذ درّسه قبل عقدين لمساعدته على إنقاذ أولاده الثلاثة المختطفين في حرب الطوائف بعد سقوط صدّام. أستاذ عوّاد كان مديرا لامعا، يقول التلميذ بطل الرواية الموازية. ابتكر نظاما حظي بتشجيع السلطات العليا: لاعقوبات تافهة مثل ضرب المعلّم لتلاميذه. نظام الأستاذ عوّاد الذي يفتخر به يقوم على تشجيع الجميع على مراقبة الجميع.
وكل ماسبق كان مدخلا، مدخلا فقط، لسؤال أسعى للإجابة عليه في مقال/ مقالات لاحقة: نحن وتاريخنا الحديث. هل يكفي أن نقول أن البشاعة واستسهال القتل والتفنّن في ممارسته باتت جزءا من حياة أبناء منطقتنا الذين عاشوا حروب لبنان وسوريا والعراق الوحشية؟ هل يكفي أن نجرّم النظم الحاكمة التي أطلقت كل هذه الغرائز الوحشية؟ كيف تربّينا على قيم «الشجاعة» في ظل نظم تزرع فينا الخوف والخنوع وتريد لنا أن نظل خائفين؟ أسئلة لا تهدف إلى التأمّل في التاريخ فقط، بل هي مسعى لفهم مايجري اليوم في العراق على الأقل.
[أي مفارقة! نصف قرن بالضبط مضى حين نشرت شهرية مصرية أدبية متخصصة مقالا عن «مسرح الغضب لدى جون أوزبورن» لمن رأت فيه، مشكورة «ناقدا أدبيا عراقيا متميّزا» لم يكن في الواقع غير ابن ثماني عشرة سنة يدرس الطب، هو كاتب هذا المقال. كأن التمرّد والتماهي مع المتمردين كامن في جيناتي. هكذا قال إعلامي بارز وهو يقدّمني لمستمعيه].