أفترض إن رحيل الفنان الرائد نوري الراوي « 1925-2014» سيغيّب ذكرى جيل أسس لأحلام وتجارب وهوية الفن التشكيلي في العراق. كان هو الراحل الأخير بينهم. ذلك الجيل الذي بقدر ما سعى إلى أن يكون الفن ممارسة جمالية خلاقة، وراسخة، بل ومتقدمة في فضاء الإبداع الوطني، كان أيضا يجهد كي يجعله حاضراً وبقوة في الواقع المجتمعي.
كان منهم نقاد فن مارسوا العمل الصحفي، وأساتذة كبار أنشأوا معاهد وأكاديميات للفن، ومنظرون أصدروا كتباً عنه، ومؤسسو متاحف، ونقابيون، وحتى مقدمو برامج تلفازية. وبجهد استمر لأكثر من نصف قرن، استطاعوا خلاله أن يصنعوا جمهوراً كبيراً، متابعاً وشغوفاً للجمال وللفن.
كان الفنان نوري قد مارس أغلب هذه المهمات ولمدة قاربت النصف قرن. لأكثر من عقدين قدم برنامج « نافذة على الفن، 1959»، واصدر أول كتاب في النقد الفني في العراق اسماه « تأملات في الفن العراقي، 1962»، كما أسهم في تأسيس وإدارة « متحف الفن العراقي الحديث، 1962»، وجهود أخرى، عديدة ومتنوعة، مضت جميعها إلى اعتبار الممارسة الفنية حقلاً إبداعياً غير منعزل عن محيطه المجتمعي، أو مكتفياً بنخبته.
كان شغوفاً بهذا التمرس والانشغال الجمالي. ولكنه كان فناناً أيضا، أضاف للمشهد التشكيلي العراقي تجربة إبداعية على قدر من الخصوصية والاجتهاد، كان الوحيد من يدرك حساسيتها، وكيفية الولاء لمغزاها. لم يقلده أحد، ولكن لم يستطع أحد، أيضاً، إلى أن يتخلى عن إعجابه، وشغفه، وتأثره بأعمال الفنان الراوي. كانت لوحاته تضاهي خياله وحلمه الفريد.
استطاع الرائد جواد سليم أن يبتكر مدينة ثقافية عبر لوحات أسماها البغداديات، وكذلك ابتكر الراحل الرائد فائق حسن مدينته الواقعية، في أعمال أنجزها في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم. صورة المدن تلك كانت ضاجة بالفلكلور، وبالتاريخ، وبالمشهد اليومي، وبالرموز والأشخاص معاً.
وحده الفنان الراوي ابتكر صورة مدينة مغايرة، كانت هي أيضاً صنيعة حلمه. فريدة في حضورها الجميل، وتأليفها التصويري الباذخ. مدينة تنتمي لمشهد من شواخص معمارية ناصعة البياض، تطلّ على نهر أزرق، وسماء متعددة الألوان. مدينة لم يذكرها التاريخ، ولم تخبرنا عنها الحكايات، ولكن أوجدها الراوي بذريعة حلم أضاء مخيلته في لحظة شاردة. والتي ستعاود وجودها الجمالي الدائم من صفاء ذلك الحلم وتداعيات خيال شديد النقاء. وليس غريباً بعد هذا الصنيع الفني، أن يكتب فوق سمائها أو على جدرانها المرسومة أبياتاً من الشعر، أو خواطر تتخذ صيغته.
ظلت المشهدية الباعثة على الحلم، بحساسيتها المرهفة هي خبرته الدائمة في التعاطي مع العمل الفني. لم تؤسره، ولم يول اهتماماً يذكر للتحولات التجريبية التي سيكون عليها الفن. كان قد اكتفى بتخيلات ذاكرته الجمالية. والذي لم يجد خلف حلمه ذاك سوى حلم آخر يماثله، لذا كانت لوحاته أشبه إلى أن تكون محاولة للحاق بحلم آخر.
لكن الفنان الرائد نوري الراوي، وعلى الرغم من كونه كتب كثيراً في النقد الفني عن تجارب فنانين وآراء في الفن ولما يقارب الستة عقود، لم يصدر عنه، حتى رحيله، أي كتاب يذكر !؟
سعد القصاب