أسماعيل زاير*
نكتب عن الإنتخابات العراقية ونحن في المرحلة الرمادية .. أي أننا بين ما قبل وما بعد العملية الكبرى التي شهدها العراق وهي رابعة الكبريات الإنتخابية في تأريخ بلدنا. وليس لدى المراقب سوى بعض الإشارات الرسمية عن وجهة الأصوات والكثير الكثير من التبجحات والإدعاءات التي ضاعت في خضمها العقلانيات المعلنة. حتى الأسبوع الأول من أيار إنتهى فرز ثلث الأصوات تقريباً وما زال أمامنا الكثير قبل ان تنتهي العملية برمتها. ويبدو ان مفوضية الإنتخابات ليس في وارد بث ونشر إحصاءات منتصف العد أو ما شابه من تقاليد دولية في الحالات المماثلة.
ومع أننا لم ننته من إعلان الفائزين في المواقع المتقدمة إلا أن الشكاوى المعلنة ضد المفوضية والكتل التي ترشح عنها فوزها (غير الرسمي طبعاً)، بلغت عنان السماء. ولم ينفع مع هؤلاء الشهادات التقديرية التي أعلنتها مندوبية الأمين العام للأمم المتحدة وفريقه المراقب ولا المديح الواسع الذي قدمته الجامعة العربية و27 مراقباً ملحقاً بوفدها ولا غياب الخروقات الحمر عن العملية أو لنقل ضآلة الخروقات الحمر التي لم تصل إلا الى أربعـة فقط.
إن هذه النجاحات المفترضة لعملية الإنتخاب الوطني رفعت من رصيد التجربة العراقية الجديدة من دون أي شك، لا سيما وأن خبرات المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات أتاحت لها إغلاق الثغرات الممكنة في شبكة الحماية الإنتخابية بقدر ما تستطيع. حتى ان تقديرات الممثلين الرسميين للإتحاد الأوروبي وغيرهم أبلغوا موقفاً إيجابياً للغاية منها.
وليس بوسع المراقب المحايد ان يستسلم لمثل هذه المواقف وينفي حصول خرق هنا أو خرق هناك بل أن واجبنا كمراقبين إعلاميين ننتمي الى الشعب ونراقب مصالحه ان ننظر بعين النقد والتمحيص. غير ان الوقائع في مثل حال الإنتخابات لا ترتبـط بالموضـوع والمعطيات فحسب بـل ترتبـط بالزمن والوقـت المرافـق لهـا.
فما معنى ان نشهد تزويراً ما في مكان ما ولا نبلغ رسمياً عنه المؤسسات المتخصصة؟ وهذه المؤسسات المتخصصة ليست أصدقاء كتلة ما من أعضاء البرلمان الأوروبي او أصدقاءنا في مخابرات الدول الصديقة والمتعاطفة، بل ان العنوان الوحيد للشكوى وإعلان الخلل هو المفوضية العليا للإنتخابات.
ومن ثم بعد تسجيلها يجري العمل على متابعتها وتصحيحها بما يخدم سلامة الموقف الإنتخابي. ومع كل ما حصل ويحصل اليوم وغداً يتوجب علينا كصحافة مستقلة عن أي كتلة وحيادية بالمعنى العميق للكلمة ان نشخص بعض ملامح المشهد العام في بلادنا وتشخيص بعـض الظواهـر المرافقـة لـه.
أولاً: أرقام ومعطيات ميدانية
الملاحظ ان عدد المقترعين هذه المرة قد زاد عما حصل في المراحل السابقة من العملية الديمقراطية في العراق. والمنجذبون للإنتخاب كانوا أكثر بنسبة 13 % مما كان عليه في الماضي. وإذا حسبنا ذلك من مجموع الذين لهم الحق بالإقتراع والبالغ عددهم أكثر من 22 مليون مقترع فهذا يعني زيادة مليون ونيف صوت جديد وافد على صناديق الإقتراع. والحقيقة السياسية تقول ان مجرد جذب هذا العدد يعد وحده إنجازاً وسط توقعات إنحسار أو تناقص صوت المقترعين لأسباب تتعلق بالمزاج العام وبسبب الأوضاع الميدانية غير المواتية كما في الفلوجة وغيرها. وأيضاً بسبب إضطرار أعداد من المواطنين اما لترك مناطقهم خشية أعمال العنف فيها أو بسبب الفيضان الناجم عن التلاعب من قبل الداعشيين بمنظمات المياه في سد الفلوجة وغيره.
والواقع ان العراق بمجمله عبر عن إمتعاض كبير من سلوك الكتل السياسية المهيمنة من دون إستثناء ولأسباب وخلفيات مختلفة، كما ان شعوراً وطنياً شاملاً بالإنزعاج من مواقف بعض المحسوبين على كتل الحكم الكبرى بأنها أسهمت مع غيرها في إطلاق العنان لجماعات أصولية معروف عنها إنتماؤها لمرجعيات تتعارض مع النهج الديمقراطي، بل ان هذه المجموعات أسهمت، مع غيرها، في تعطيل إصلاح الأرضية القانونية السليمة لنشاط المتنافسين عبر تعطيل وتلغيم قانون الأحزاب بهدف إخفاء مصادر تمويلها والتغطية على طبيعتها الطائفية.
وكان لهذا الأمر عواقبه في توجه قطاعات كبيرة من المقترعين للتوجه لدعم كتل وإئتلافات خارج التوصيف الطائفي والمناطقي على أمل إحداث تغييرات في بنية مجلس النواب الجديد.
الملاحظة الأخرى التي يمكن أن توضح سلوك الكتل والمقترعين والمرشحين هي عودة الكتل الى وضع مرشحين برلمانيين في قوائمهم وهم يخططون منذ البدء لتولي مناصب تنفيذية في الحكومة المقبلة. الهدف وراء هذا يبدو بريئاً إلا انه خطير للغاية على مستوى الظاهرة السياسية المستقبلية. وهو حيلة تقادمت ولم يلحظ الجمهور آثارها جيداً. فالنواب المنتخبون والأقوياء عادة ما يذهبون الى المناصب التنفيذية الى نواب تعويض يفتقرون للقاعدة الإنتخابية المواكبة لقوة هؤلاء. فيأتي بديلهم ثرثاراً غير جاد وغير فعال ومؤذياً كما في حال عدد من نواب التشهير والزعيق الإعلامي، أو أنهم يبقون صامتين مثل أبي الهول عند المنعطفات السياسية. وثمة ملاحظة مثيرة تؤكد قولنا وهي: ان عدداً من النواب السابقين دخلوا مجلس النواب وخرجوا منه من دون ان يلحظ وجودهم الجمهور، ولم يتركوا أي بصمة ملموسة على المشهد السياسي أو الإنتخابي. ونحن ندرك ان ظاهرة كهذه لا يمكن معالجتها بسرعة ووفقاً لقرار برلماني، إلا أننا نعتقد انها كانت من أكثر الظواهر سوءاً على صعيد التجربة العراقية وأعطت إنطباعات سلبية عن نوعية النخبة البرلمانية.
وإذا وضعنا في الإعتبار ما تطرقنا اليه عند حسابنا الحصاد البرلماني للمرحلة اللاحقة لرأينا ان غياب الأقوياء عن المجلس وتعويضهم بمن يختارهم مسؤولو الكتل لرأينا ان هذا الأمر تسبب في تبديد وقت طويل على نشاطات برلمانية إستعراضية تدخل في مجال المحاولات التكتيكية لتعويق عملية تشريع القوانين الملحة للحياة العامة وتسفيه الظاهرة البرلمانية بوجه عام.
ثانياً: في التوازنات والمواقف الجديدة للكتل الشيعية
أبدى رئيس الوزراء وكتلته «دولة القانون» ثقة عالية في أثناء التبشير بعنوان جديد وهام وهو «حكومة الأغلبية». وأعطى الإنطباع انه أما بصدد إكتساح الساحة السياسية إنتخابياً بما يضمن له أصواتاً ومقاعد برلمانية كافية لتأمين هدفه أو انه مرتب لتحالفات أخرى مع الكتل القريبة كالمجلس الأعلى وقائمته « المواطن»، مثلاً لتحقيق ذلك.
المؤشرات العملية تقول ان كتلة دولة القانون هي الأولى وبفارق معتبر أمام الكتل الأخرى، ولكن أكثر المتفائلين لم يرشحها لنيل اكثر من 120 مقعداً من المقاعد الـ328 التي يتكون منها مجلس النواب، أي أنه ما يزال في أفضل الفروض بحاجة الى 44 صوتاً ليمرر مشروعه في تحقيق الأغلبية السياسية. وليس، حتى الآن من مؤشر أن الإئتلافات الصغيرة المستحدثة والتي يقال أنها على مقربة من «القانون» أو تلك التي يمكن ان تنتقل الى معسكرها من مكونات الكتل الأخرى قادرة علـى تأميـن النصـاب المطلوب.
ونقلت بعض المصادر الشيعية القريبة من الكتل الكبيرة محاولات طهران إبقاء حالة من التحالف بين القانون والمواطن من أجل عبور إستحقاقات الحكومة المنتظرة وتثبيت إستقرار للكتل الشيعية من أجل إبقائها كمكون أساسي في العهد الجديد.
ولكن ألغاماً كثيرة سرعان ما إصطدمت بها محاولات تبريد الحملات الإعلامية المتبادلة مما جعلنا نشهد حالة مد وجزر سريعة أكثر مما ينتظر بينهما بحيث تبادلت الكتليات بشكل مباشر وغير مباشر عمليات الشد والجذب والحملات النفسية المضادة لبعضها. كما برز دور واضح في تصديه ورفضه لتحالف محتمل بين القانون والمواطن كان على رأسه إثنان من الصقور في قائمة المواطن أولهما باقر جبر صولاغ الطامح بقوة لمنصب رئاسة الوزراء وطامح إنتحاري آخر هو الدكتور أحمد الجلبي يبدو ان ليس لديه ما يخسره من الإندفاع بقوة وعلى كل الجبهات ضد شخصية المالكي.
الأدوار تتبادل هنا وهناك وليس ثمة دلائل إضافية، في الأقل اليوم قبل إعلان النتائج، عن حماس إيراني للم شمل الكتل القريبة منها. وفي الأقل يبدو أنها تفضل إستمرار دبلوماسية التبريد المتبعة منذ أشهر على ان تراجع مواقفها من الأمر بعد معرفة من حصل على ماذا من المقاعد. وربما معها حق في ترددها هذا إذا عرفنا ان التسريبات الراهنة عن الحصص المستحصلة من الإنتخابات تتصاعد وتتنازل وفقاً لمؤشرات غير مؤكدة أو موثوقة وتضع دولة القانون في موقع الحصول على 80 مقعداً مرة و90 أخرى وهكذا بقية الكتل.
ثالثاً: رابحون، ورابحون جداً
للمرة الأولى يعبر الناخب العراقي عن إرادته بوضوح لا يخفى على السياسيين. فقد أفرزت التقديرات الإنتخابية حتى الآن ثلاثة رابحين كبار أولهم التيار الديمقراطي المدني، الذي يبدو انه حصل للمرة الأولى على تصويت إيجابي من جمهور متذمر من تجربته مع الكتل الدينية على أنواع طوائفها. التقديرات تشير الى ما بين 5 الى 19 مقعداً انما هذا بكل المقاييس مفاجأة سارة لأنصار التطوير الديمقراطي للحياة السياسية. وحقيقة عبرت أطراف ونخب وتكنوقراط عن سعادة بالتوجه الجديد للجمهور على أمل ان يتنامى ويتطور في المراحل المقبلة.
ولكن التحليل الدقيق لبنية هذا التيار تثير بعض القلق. فالشيوعيون، الذين هم أكثر صخباً من الناحية اللفظية صوّتوا لمرشحيهم فحسب في قوائم التيار وهذا أمر سلبي يحسب عليهم ان كان صحيحاً وعليهم ان يعبروا بوضوح عن إنغمارهم مع التيار الجديد كمحرك وليس كقائد كما حصل في التجربة الإيطالية التي إندمج في تيارات مدنية كثيرة في تنظيم إنتخابي كبير نهض بدور إيطاليا وإنتشلها من مشكلاتها في مرحلة حرجة.
إلا أن التيار الديمقراطي يعاب عليه شيئان: غياب برنامج ناضج للإصلاح السياسي وثانيهما الميل لخيار العمل كمعارضة، وتناقض بعض شخصياته المشاركة وتعارضها مع البعض الآخر، وأيضاً وعدم الدخول في إئتلاف قد يحقق له بعض أهدافه الرئيسة. ولممثلي هذا التيار في الإعلام المتوفر في الفضاء العراقي أدلة كبيرة على هذا التوجه المخيب للآمال. فهو ليس طهرانية عابرة للواقع فحسب بل تعبير عن الخوف من الخوض في اللعبة السياسية بمعناها الواسع وما يتبعها من إحتمالات ومخاطر.
ولكننا يمكن ان ننتظر بعض الوقت لنرى كيف ستكون مواقف التيار بعد إعلان النتائج. وسيكون للجمهور رأيه القريب وسيكرم أو يعاقب ممثليه في وقت لاحق.
الرابح الثاني في الإنتخابات هو الإتحاد الوطني الكردستاني الذي يبدو انه إستعاد بعض عافيته ومواقعه وحقق نجاحات تصل الى ما يقارب 20 مقعداً في مجلس النواب فيما كان له 12 مقعداً في البرمان السابق. ومهما تكن حقيقة الأرقام فالفضل في التقدم الحاصل هنا يعود الى قوة المراجعة التي قامت بها قيادة الإتحاد الوطني لسياساتها السابقة ومساعيها لرفض التراجع المجسد في إنتخابات المجالس المحلية.