سعد القصاب*
يضمّ كتاب «محمد مكية 100 عام من العمارة والحياة» (دار الأديب، عمان، 2014)، للمعماري والباحث الأكاديمي الدكتور خالد السلطاني، إضافة الى قراءة تحليلية ونقدية لسبعة عشر مبنى ومشروعاً معمارياَ إحتفظت بأهمية قصوى في مسيرة مكية الزاهرة والثرية في مجال العمارة، على عدد من المحاضرات التي ألقاها في مؤتمرات ومناسبات عدة، ومنذ العام «1964»، ومقابلات شخصية معه في عديد الدوريات العربية.
أوضحت هذه الخطابات والطروحات بمنطلقاتها النظرية، عن طبيعة إهتمامات مكية ووجهات نظره الرصينة في مجال تخطيط المدن، وولعه الراسخ بالمعمار العربي، والإسلامي خاصة، والذي ينظر إليه بوصفه تراثاً متميزاً يحتفظ بقيم إنسانية ومقاييس معمارية خلاقة.
تبقى أطروحة تمثل التراث المعماري إحدى ركائز مشروع مكيه، كونه وفي ماهيته يعد وظيفياً وحتمياً للوجود الإنساني، ومن خلاله يمكن تفادي العمارة المجهولة الهوية، الفاقدة لشخصيتها جرّاء شموليتها العابرة للخصوصية. فالعمارة تفاعل مع حيزها المكاني، بأمانة الأداء الوظيفي وأصالة طابعها الجمالي.
يميز «محمد مكية» بين مفهوم «العمران الحضري» بوصفه عمراناً يستوعب قيم التعامل الإنساني، بشرطها الروحي والإجتماعي، وصلتها القائمة على الإنسجام مع العالم، في بعدها التاريخي وخبرتها المرجعية. وبين مفهوم «العمران المديني» الذي يسعى التى تكريس المظهرية العابرة، والقائمة على الإستهلاك، والحذلقة المهنية الفاقدة لأية أهداف قيمية أو عائدية حضارية.
السلطاني، في كتابه، يؤكد على مرحلة شديدة الفرادة للمعماري محمد مكية، والتي بدأت مع «مسجد الخلفاء، بغداد 1963»، لما تنطوي عليه من طبيعة تصميمية مبتكرة، وعبر مبانٍ متعددة الأغراض والوظائف، إحتفظت بحلول إنشائية عدّت من معالم ما عرف «بالتيار الإقليمي الجديد». وهو إتجاه طرح مفهوماً لا يخلو من خصوصية في العمران، والقائم على توافق طبيعة الوسط البيئي مع رموز ومفردات نتاجها البنائي والعمراني.
كانت تجربته في هذه المرحلة، شاهدة على ولع عميق بالتفاصيل التصميمية وفرادة تعالقها مع ألفة المكان ونماذجه لجهة إبتكار خصوصية لتلك المقاربة المعمارية. والمتآلفة من مرجعياتها البيئية والمكانية مع مستلزمات وقيم عمارة الحداثة. وهو الإجراء الذي أكد نهجاً إقليمياً معلناً في المشروع المعماري العربي الحديث.
أقول، يستدعي صدور هذا الكتاب، التذكير بأسئلة لا تخلو من مفارقة ثقافية ومجتمعية ومدينية، باعثة على الذهول والصمت الطويل، بأسباب كون «مدينة بغداد» برغم عراقتها ودورها الإنساني والحضاري والتنويري، إستطاعت كذلك ان تنجب أهم رواد العمارة العربية والإقليمية في العصر الحديث. ليس فقط من كونهم معماريين كباراً ولكنهم، أيضاً، منظرون وأصحاب رؤى وطروحات وحلول مبتكرة عن المدينة والعمران. محمد مكية ورفعت الجادرجي نماذج لذلك!
من الغرابة ان تعيش بغداد ومنذ أكثر من ثلاثة عقود، حالة من غياب تام لهويتها وحضورها المديني والمجتمعي، والبقاء عند ممارسات تخطيطية، وإنشائية، ومجتمعية، أبقتها على حافة الفوضى وإنعدام صورة المدينة المرجوة عنها ؟ لم تشفع طروحات وأحلام أبنائها من المعماريين، ولم يقدّر لهم تحقيقها في مدينتهم التي كانت نتاجاتهم آيقوناتها البصرية الجميلة، بقدر ما تحقق من غلبة لغباء وصلافة السياسيين الجهلة بأفكارهم على وجودها وكينونتها ؟
سؤال محيّر بحق !؟