شيء عن عن طبيعة الشعر

نيجرفان رمضان

قبل الخوض في مضمار الكتابة عن قراءة في كتاب “طبيعة الشعر ” لا بد من إشارة بسيطة إلى أن الكتاب في الأصل عبارة عن مجموعة مقالات بلغ عددها ثمانية مقالٍ؛ نُشر البعض منها سابقاً ضمن كتبٍ أخرى هي ” إحساس المجد 1929ـــــ الشكل في الشعر الحديث 192ـــــ العقل والرومانسية 1926 ، وكتاب “طبيعة الشعر “هو الجزء الأول من كتاب ” طبيعة الأدب ” الصادر ضمن سلسة كتب أيفرغون عن دار غروف /نيويورك. مؤلف من قسمين رئيسين؛ الأول “طبيعة الشعر” والثاني “دراسات خاصة”. وتكمن أهمية هذا الكتاب الصادر عن منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية / دمشق 1997 ؛ ترجمة الدكتور عيسى علي العاكوب ومراجعة الدكتور عمر شيخ الشباب لـ هربرت إدوارد ريد  “1893 ــــــ1968” المؤرخ الفني الإنكليزي الأصل والشاعر والناقد الأدبي. إنه  يسلط الضوء على بنيوية القصيدة دارساً الشكل العضوي والشكل المجرّد وأسلوب العبارة الشعرية ومكانة الأسطورة في الشعر .

في محلق التايمز الأدبي كُتب عن منزلة الكاتب والكِتاب معاً حيث قيل: { في هذا الكتاب يمضي بنا السيد هربرت ريد أحد نقاد الإنكليز البارزين وأحد شعراء عصرنا في رحلة الكشف الأدبي التي تفضي بنا “إلى أصقاع غريبة ومجهولة في العقل البشري ” ويأتي السيد هربرت ريد بتناولٍ جديد لحقول النظرية الجمالية والتذوق الجمالي حين يوجه النقد الأدبي وجهة نفسية جديدة، ويوجه المؤلف انتباهه أولاً إلى طبيعة الشعر فيسبر أغوار شخصية الشاعر، وطبيعة العملية الإبداعية، والتجربة الشعرية. وهو يتفحص العمل الفني نفسه ويلقي ضوءاً جديداً على بنية القصيدة، دارساً الشكل العضوي والشكل المجرد وأسلوب العبارة الشعرية ومكانة الأسطورة في الشعر ــــــــ إنه صنيع إنسان على مستوى رفيع تلتقي فيه صفات العالم والناقد والشاعر } .

هربرت ريد اعتبر الأدب مادة تُقاس وتُقارن وتقوّم  ،وتعامل مع الشعر على أنه مادة عضوية حيَّة مستمدة فكرتها من الواقع مستوضحاً ذلك بـ قبائل السكيثية البدوية التي غزت جنوبي غرب روسيا في القرن الثامن قبل الميلاد وجلبوا معهم فناً محدداً في مجالهِ كالزخارف المعدنية التي اُستخدمت سابقاً في تزيين صهوات الجياد والأكسية والأسحلة لتي كانت تماثيل للحيوانات والتصاميم الفنية التي جسدتهم، خضعت لأسلوب خاص أي أن الحيوان شُوه في غمرة الاهتمام بالإيقاعات المؤلفة من الخطوط والمظهر الخارجي؛ هذهِ الحالة سمّاها هربرت بالحالة العضوية، ذلك أن كل انتقالٍ من الحقيقة إلى الطبيعة هو في الوقت نفسه تكثيف للحيوية العضوية؛ فالشكل في الأسلوب الحيواني السكيثي مفردٌ كاملٌ وعضوي، أمّا في الأسلوب المتأخر فهو متحرر من الدافع الأصلي والشكل العضوي للشعر حسب التعريف الحرفي لـ هربرت حين تتوافر للعمل الفني قوانينه الفطرية الخاصة وينبثق عن روحه الإبداعي الحقيقي ويدمج في كل واحد حيّ البنية والمحتوى فالشكل الناتج  من ثم يمكن أن يُوصف بأنه عضوي.

حسب منطق ريد للنقد لا ينبغي للناقد أن يشغل نفسه بالعمل الفني فحسب، وإنما أيضاً بعملية الكتابة وبالحال العقلية للكاتب وهو يتقلى الإلهام، لذا اهتم بنظرية العقل لأنها وثيقة الصلة بالبحث الذي قام بهِ بعد أن طوَّرها أصحاب التحليل النفسي، خاصة فرويد. وهناك مظاهر أسياسية محددة للتحليل النفسي نوقشت من جانب علماء النفس، خاصة ذلك الشطر من النظرية الذي يفترض وجود العقل غير الواعي أو المنطقة غير الإبداعية من العقل، ويحدث الآن أن هناك هذهِ الفرضية الخاصة التي من المرجح أن يكون الناقد الأدبي أكثر إغراء بتبنيها. ودعه يحذر كل الحذر منها فالحاصل كما حذرنا علماء النفس أنّ { كل استخداماتها مصطلح “العقل غير الواعي ” التي تتضمن كينونة من مثل القول ” إن الأفكار في العقل غير الواعي أو أنّ العقل غير الواعي فعّال. لذا عمل هربرت على دراسة شخصية الشاعر التي لا علاقة لها بـ شخصيته الحقيقة، معتمدًا بذلك على الطبيعة الذاتية للشخصية الشاعرية والفعل الذي أدّاه في عملية الكتابة ، لكن الكاتب “الشاعر” مهما كانت شخصيتهُ سيئة أو جيدة فهو يترك منها شيئاً في عملهِ ؛ الفكرة تذكرنا بـ الـ الغابة المقدسة لـ ت،س، إليوت الذي أيّد الفكرة قائلاً : { ليش الشعر تحريرًا للعاطفة، وإنما وسيلة تخلص من العاطفة، وهو ليس تعبيراً عن الشخصية وإنما وسيلة فرارٍ من الشخصية }. والأنا المستخدمة في الشعر وفي الكتابة الإبداعية عموماً ليست شخصيَّة؛ فالكاتب على وجه العموم ليس لديه شخصية بعينها بل هي مجرد وسيطٍ أو ناقل للفكرة والحدث وليست شخصية الكاتب الحقيقية.

ومثلما هناك سلم موسيقي هناك أيضاً سلم للإلقاء الشعري يقيس بدقة أمد كل مقطع في القصيدة، ويُسمى هذا المقياس بـ الـ ” كيموغراف ” مسجلة الحركة والضغط، وهي تبشّر من خلال عملياتها بأن تضع نهاية لجدالات العروضيين التي لم تتوقف في عصر  من العصور ، ذلك لأن الـ كيموغراف على غرار آلة التصوير لا يمكن أن يزوّر.
ويقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: كل ما هو  ظاهر  هو كاذب؛ كل ما هو خفيٌ هو حقيقي، قاصدًا بكلامه المغني وهو يظهر روح الأغنية في سماه. لكن ماذا عن الشاعر وهو يحرك يديه تناغماً وتجسيداً لروح النص وإيقاعيته الشعرية، هل بذلك يخدع المتلقي خدعة لطيفة؟ وماذا أيضاً عن هندامه والوشاح الملفوف حول عنقه؟.
عن الأداء الشعري جلب “ريد “كلام كولريدج في إحدى محاضراتهِ عن شكسبير، مبدأ الشعر الحديث. حيث قال : { لا يجرؤ عملٌ أدبيّ ذو عبقرية حقيقية على المساومة على افتقاره إلى شكلهِ المناسب وليس ثمة في حقيقة الأمر أي خطرٍ في هذا، ومثلما أنهِ لا يمكن أن تكون العبقرية دونما قانون فإن العمل العبقري لا يستغني عن القانون، فالقانون هو نفسهُ الذي يشكّل عبقرية هذا العمل وقوة الفعل التي تبدع تحت تأثير قانون نشأته الخاصة }. وقد ظل  هذا المبدأ غامضاً حسب رأي هربرت لعهود مديدة لأنه ليس لدى الناس تحديدٌ واضح للشعر ، ولأن ضرباً مختلفاً تماماً من النشاط كثيراً ما انتحل لقب الشاعر.
وقال بدقة أكثر { إنّ للشعر خاصيّة خارقة ـــ تحوّل مفاجئ تتخذه الكلمات تحت تأثيرٍ خاص ــ وليس في مقدورنا أن نحدد هذهِ  الخاصية أكثر ممّا في مقدورنا أن نحدد حالة من الجمال، ومافي مستطاعنا أن نفعلهُ هو  فقط أن نأتي ببعض التمييزات بين الشعر والنثر ، فالفرق بين الشعر والنثر يكمن في الجوهر، وعن الشعر يقول ليفي برول وهو عالم اجتماع فرنسي وصاحب كتاب ” الوظائف العقلية في المجتمعات البدائية” وكتاب ” العقلية البدائية “: الشعر شكلٌ تعبيري أكثر أولية من النثر ، ومن هنا تبدأ نشأة لغة الشعوب البدائية شعرية غالباً.
وجاء عن الشعر في  كتاب “العلم  الجديد” لـ الفيلسوف الإيطالي جامباتستا فيكو  { لا ينشأ الشعر عن ميل مجرد إلى المتعة بل ينشأ عن حاجة طبيعية ولن يكون الشعر نفلاً  أو قابلاً  للمحو، فمن دونهِ لا ينشأ فكر ، إنهُ النشاط الأول للعقل البشري، وقبل أن يكون الإنسان قد بلغ مرحلة تشكيل العوالم يشكّل الأفكار المتخيلة، وقبل أن يتأمل بعقلٍ صاف يدركُ بقدراتٍ مضطربة مشوشة ، وقبل أن يقدر على التكلم بوضوح يغني وقبل أن يتكلم نثراً يتكلم شعراً }.

جوهر الشعر كان جل اهتمامهِ إذ يتساءل في مقدمة مقاله الرابع المعنون بـ بنيوية القصيدة، كيف يتأتى للشاعر أن يمرّ عبر المجاز والقصيدة الغنائية التي هي حقّاً مجرد محدود إلى التصورات الملحمية الكبيرة التي نقيس بها عظمة الشعراء؟
طول القصيدة أو قصرها ليس مهماً فلا يضيف شيئاً إلى  جمالية النص، الجمالية تكمن في الكلام الشعري وصوره البيانية ومبلغهِ من وصول الفكرة إلى القارئ؛ إذ يقول المثل الشعبي ” كلمتان نقيتان خيرٌ من جريدة قذرة “. لكن هربرت يسمي القصيدة القصيرة بـ القصيدة الغنائية التي هي غالباً تعبر عن حالة عاطفية وتحتوي على جرعة موسيقية تساعد في الإلقاء الغنائي، وأمّا القصيدة الطويلة هي حزمة من الأمزجة محبوكة بذكاء جم وهي اختبارٌ للإلهام أو  لـ براعة الكاتب في الاسترسال ومضمون القصيدة أي فكرتها ــ بينيتها هي تجسيدٌ للقصيدة، ربما تكون الفكرة فلسفية أو مقتبسة من  الأسطورة، أو ربما من الملحمة .

في هذا الكتاب الذي يقع في صـــــــــــــــ 148 تحدث هربرت ريد عن شخصية الشاعر والأداء الشعري وبنيوية القصيدة، كما أنه تطرق إلى طبيعة الشعر الميتافيزيقي، مشيراً إلى الغموض في الشعر.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة