حسن العاني
« يوميات كوفيد 19 « ، مبعث غرابة غير إعتيادية ، على الأقل بالنسبة لي ، لأن إختيار مثل هذا العنوان لأحدث كتاب صادر عن قامةٍ أدبية كبيرة ، يضعنا أمام تساؤل أَوّلي حول علاقة حنون مجيد – الرجل التربوي وظيفة .. الأديب والقاص والروائي عنواناً – بقضية ( طبية صحية) .. أليس هذا مبعث غرابة حقاً ؟!
القامات الكبيرة من طبعها ان تقودنا الى ما تريد هي ، لا مانريد نحن ، وتلك هي مهارة القيادة التي مارسها حنون ، وآية ذلك ، إنني بعد إنتهائي من قراءة الكتاب فكرتُ أن أرفع صوتي الى مَنْ يعنيهم الامر – مع علمي أن لا أحد يسمع – لكي يقدموا لكل أُسرة عراقية نسخة من هذه اليوميات تغنيها عن البلبلة التي تبرعت بتقديمها منظمات الصحة العالمية وإعلامنا المحلي ، لأنها أنفع وأجدى من دعوة المواطنين الى التلقيح عبر التهديد بعدم السماح لهم بالدوام في دوائرهم أو قطع رواتبهم أو منعهم من السفر أو .. أو .. وهو خطاب يصح التوجه به الى متهمين ولكنه لايليق بالمواطن وكرامته وحريته !!
كوفيد 19 : لاتقدم نظريات أو شروحات أو مفاهيم معينة عن كورونا ، ولكنها تطرح تجربة رجل موثوق بمصداقيته مع الجائحة ، وأهمية هذا الطرح النابع عن تجربة (حقيقية) تكمن في كونه واقعاً وليس كلاماً ، وتجربةً وليس تنظيراً ، وكلما قَلَبْنا صفحةً جديدة من الكتاب إكتشفنا إن المؤلف بذكاء يحسد عليه ، يُخبرنا من دون تخويف ولا تهديد ولا نصائح ، إن أسباب إصابته بكورونا – وهو الحريص على عافيته وثقافته الصحية – تعود الى أخطاء بسيطة جداً ، أدتْ الى نتائج بالغة الخطورة ، اقتربتْ به من حافة الموت ، في مقدمة تلك الأسباب إنه جعل من نفسه طبيباً يصدر الأحكام على أي عارض صحي على وفق إجتهاده ، ففي غليان الفايروس وإشتداد هجمته العدوانية ، كان المؤلف يفسر إصابته بالرشح والعطاس على إنها أعراض إنفلونزا اعتيادية طالما تعرض لها في مواسم سابقة ( ولما كانت تجربتي معها- الانفلونزا – طويلة ، ولم أجدها قاتلتي يوماً ، تمهلتُ أو تماهلتُ كثيراً في عرض حالي على الطبيب – ص11) ..
المؤلف لم يطلب من احد مراجعة الطبيب عند حدوث أية اعراض مرضية ، خاصة مع تفشي وباء ما في البلد ، ولكنه بصورة غير مباشرة يحدثنا عن نفسه ، وانه لو لم يتماهل ، ولو راجع الطبيب لما حصل الذي حصل .. اما الذي حصل او حدث فلا يمكن الاستهانة به ، حنون مجيد يصوّرُ حجم ونوع الآلام التي تعرض لها بأسلوبه الشيق ولغته البسيطة وطريقة عرضه الممتعة للأحداث ، بحيث يجعلنا نزور الطبيب للتأكد من سلامتنا الصحية حتى من دون أي عارض مرضي …الكاتب لايكتفي بوصف قساوة الألم الجسدي وصفاً واقعياً يجعلنا نتحسسه ، بل يتعداه الى المواجع النفسية مع الاسرة على وجه الخصوص ( نعم …اول مرة اشعر بحقيقة انني مريض ، وانني مُعْدٍ ، وعليّ أن أعتزل ، وان اؤمن بأن غرفتي هذه وسيلتي الى احد سبيلين ، القبر وانت على شفا حفرته ، والحياة وكلفتها شاقة ولاتدري مقدار المسافة اليها / كان أول ذلك التفكير في كيفية تناول طعامي / ووفق أي نظام سيحصل ذلك غير وضع الطعام في باب غرفتي ، وتجنب التماس المباشر معي والتحدث عن بُعد مع تغطية معظم الوجه بالكمامة / يخالط ذلك كله خوف من تدهور الجسد المسجون وتأنيب ضمير من احتمال انتقال الفايروس الى افراد عائلتي / وهناك شبح كآبة غريبة يلوح في أفق غرفة ضيقة ، ونفس واهنة لم تعد قادرة على إيجاد متسع لها كلما حاولت ذلك …مقتطفات من الكتاب ص21) ، هذا غيض من فيض استشهد به على الصورة التي قدمها المؤلف الى قرائه كي يتركوا مابين أيديهم ، حتى لو كان مكالمة غزلية مع الحبيبة ، ويسارعوا لتلقي (التلقيح الأول) ، من غير ان يدعوهم الكاتب او يطلب منهم ذلك حتى بالإشارة او التلميح …
إن الكثير من تفاصيل التعامل مع أيام الجائحة التي يصعب الإشارة إليها او الإحاطة بها مجتمعة ، وضعتنا امام كتاب يصلح ان نطلق عليه ( دفتر صحي) لكيفية التعامل مع وباء مرعب مثل كورونا …غير ان الامر ليس على هذا النحو كما أراد له المؤلف – من وجهة نظري- عن تخطيط ونوايا مسبقة ، فخبرة حنون مجيد ومهاراته نقلتنا الى ما اخشى ان أسميه (حسنات كورونا) ، فمن دون نصائح مملة ولا لغة وعظية ثقيلة قال لقرائه ، او ارشدهم الى الوسيلة الأفضل لتمضية أوقات الفراغ الطويلة ، والحجز والاعتكاف والكآبة والانكفاء على الذات ، وذلك عبر الانصراف قدر الإمكان الى استثمار تلك الأوقات بما يتواءم مع رغباتهم وهواياتهم وخاصة الإيجابية ..
هكذا بدا المؤلف وكأنه طوى صفحة كورونا او الحديث عنها من حيث هي ( أعراض ومرض وآلام وعلاج) الى استثمار وجهها الاخر .. حنون مجيد ابتكر لنفسه وسيلة واهداها لنا بصمت ، متمثلة – بالنسبة له – بصفته الثقافية والنقدية .. انه ينقل لنا مايرافقه من مطبوعات تشاطره فراش الألم وما تسترجعه ذاكرته .. حنون قدّم نفسه وكأنه خارج سريره ، واقفاً او جالساً وراء منصة أدبية او خطابية وهو يرفد مستمعيه بالمعلومات والمواقف والآراء والتنظيرات والاجتهادات والطروحات النقدية التي لم يلتفت هو الى معظمها او بعضها في الحد الأدنى قبل الجائحة…
سأكتفي هنا بإشارات سريعة مختصرة ما وسعني ذلك ..فنحن نتعرف على إيضاحات غنية عن ( القصة القصيرة جداً) ، نشأتها وهويتها وطبيعتها …نقرأ عن جلال الدين الرومي مايمتعنا ، خاصة في العودة الى بعض القصائد او المقاطع الشعرية ..هل تصدقون كل هذا يحصل في مطبوع يتناول كيوفيد 19؟! المفاجأة ان الامر لم يقف عند حدود القصة القصيرة جداً والرومي ، بل تجاوزه الى آفاق تبدو وكأنها مفتوحة .. هذه المرة ( نيتشه – وهكذا تكلم زرادشت ) ، سعدي يوسف شعراً وضياء خضير نقداً ، الدكتورة لقاء موسى الساعدي وكتاب سغب العواطف ، علي جواد الطاهر وادب الرسائل ، اسعد اللامي ومجموعة كبيرة من أسماء الادباء ، الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد وغيرهم وغيرهم وغيرهم صعوداً الى زهير بن ابي سلمى شاعر الحكمة المعروف بمفردة ( ومَنْ .. ومَنْ) – ومقارنته بعنترة بن شداد وقعقعة سيفه ودوي مفرداته .. في هذا الخضم نقرأ سيراً ذاتية .. ونتعرف على اعترافات أخلاقية للمؤلف حول مدى اعجابه او تأثره بالآخرين ..
أمر عجب …حنون مجيد الذي قام برحلة أدبية ونقدية واستذكارية متشعبة ، لم يغفل يوميات كورونا ، كان حريصاً على العودة اليها بعد هذه القراءة النقدية او تلك بما يشبه التوثيق التاريخي او اليومي للمرض وحالاته .. ولابد ان المؤلف سحرنا بهذه المزاوجات المذهلة في كتاب يصح ان يكون مرة (دفتراً صحياً ) ويصح في مرة أخرى ان يكون قراءات أدبية منوعة ، ولكن السحر الاجمل فيما أرى يتخطى ما اشرت اليه ، لأن الكتاب في الوقت نفسه يمثل مقاطع من ( السيرة الذاتية) للمؤلف ، حيث تعرفنا عبر صفحاته على طفولة الكاتب .. صداقاته .. توجهاته الكتابية .. سفراته .. علاقاته الأدبية والثقافية .. أيام مرضه في مراحل عمرية متباينة …ويبقى سؤال أخير يبحث عن هوية هذا المطبوع ..هل هو صورة قلمية للفايروس او مقالات أدبية … ام انه سيرة ذاتية للكاتب ؟ ان أي انحياز الى احد هذه التساؤلات الثلاثة لايبدو منصفاً ، لكونه يعني ظلماً لطرفينِ آخرينِ ، فالأطراف الثلاثة متكافئة من حيث الموضوع وغزارة المعلومات وطريقة العرض ، ولذلك فأن الاحق والأولى ان نقول : هذا مطبوع توفر على فن كتابي غني بالمعرفة والمتعة والخروج عن المألوف ، واستطاع الكاتب عبره الهرب بجدارة هروباً فنطازياً من الخاص الضيق المحدود الى العام بآفاقه الواسعة ..