الافتقار الى البرامج الانتخابية مظهر الاحزاب العراقية

تفتقر الاحزاب والتحالفات التي شاركت في انتخابات تشرين المبكرة عام ٢٠٢١ في العراق الى برامج انتخابية واضحة تتعلق بطائفة واسعة من القضايا الداخلية والخارجية؛ التي يعد تحديد الموقف منها وحسمه، عاملا فاعلا في لمس المغزى الحقيقي من ممارسة ديمقراطية سليمة.
ان عدم الالتزام بهذا الامر منذ الدورات البرلمانية السابقة وبالتحديد منذ عام ٢٠٠٥ مع اول انتخابات للجمعية الوطنية، ادى الى تفاقم حالة انعدام الثقة بين الشعب من جهة وما يمكن ان نطلق عليه “الطبقة السياسية” الحاكمة من جهة اخرى، وقد عزز حالة انعدام الثقة تلك الاداء السيء لجميع الحكومات المتعاقبة منذ عام ٢٠٠٣ التي اخفقت في تحقيق المطلوب منها تجاه الشعب العراقي، وهو ما يجب ان يكون الدافع من وراء الاشتغال بالسياسة، والا فلا معنى لها اذاً.
يقول الفيلسوف اليوناني أرسطو، ان دولة المدينة في “السياسة” تنبثق إلى الوجود من أجل الحياة، بيد أنها وجدت من أجل الحياة الخيّرة، على حد وصفه، ويتكرر حديثه مرارا عن أن الحياة الخيّرة أو السعادة هي الغاية الملائمة لدولة المدينة في “السياسة”.
ويحق لنا ان نتساءل على وفق هذا المفهوم الصحيح قطعا، لحرصة على خير وسعادة الناس، كيف يدير سياسيو العراق البلد في ظل الغياب الواضح لبرامجهم الانتخابية “الخيرة حصرا”، وفي الحقيقة فاننا لطالما تساءلنا عن ذلك منذ اليوم الأول الذي جرى فيه اسقاط النظام السابق المباد في نيسان 2003، غير انه لم يجر الاقتداء بالسياقات الصحيحة لتحسين واقع الناس، فاستبدت بهم البطالة وانعدام السكن وتفاقمت مشكلات توفير الكهرباء والماء وتزايدت معدلات الفقر؛ وضرب صفحا عن اعمار البلد واعادة احياء صناعته وزراعته، ما زرع التشاؤم واليأس من تحسن الوضع لدى اغلبية السكان، وانزاح الخير جانبا وفقد الناس ثقتهم بكل ما يجري الى الحد الذي قاطعت فيه غالبية السكان الممارسات الانتخابية بصورة واسعة منذ عام ٢٠١٨، لاسيما في انتخابات مجلس النواب الاخيرة في تشرين الاول 2021.
وبإلقاء نظرة على تجارب الدول الديمقراطية وبرامج احزابها التي تنشرها قبل الانتخابات يبين الفرق الكبير في الحالتين، وسر تفوق وقوة بناء تلك الدول و مسببات رقيها.
ففي المانيا مثلا التي تنافست فيها عدة احزاب في انتخابات ايلول 2021، التي اختارت المستشارة انجيلا ميركل ألا تترشح فيها، فان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي فاز لاحقا، طرح برنامجه قبل شهور من الانتخابات واعلن بوضوح انه عاقد العزم على إصلاح الضعف البنيوي للاقتصاد الألماني وتكييف آليات سوق العمل مع متطلبات الاقتصاد العالمي المتعولم، ومراعاة حقوق العاملين اذ يريد الحفاظ على القوانين التي تحول دون تسريحهم، بحسب ما جاء في برنامجه الانتخابي، الذي اوضح ان هدفه الأسمى يبقي متمثلاً بالتوفيق بين “العدالة الاجتماعية ومتطلبات الاقتصاد العالمي السالك طريق العولمة”؛ كما طرح تصوراته للسياسة الخارجية بوضوح ولم يخفي ذلك ومنها ان الحزب يدعم انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، ويسعى إلى حصول ألمانيا على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، وتطرق الى قوانين الهجرة والاندماج، كما اعلن نية الحزب في حالة فوزه بالانتخابات تحديث آليات عمل أجهزة الأمن الألمانية و”الفصل الكامل بين مهام الشرطة (الأمن الداخلي) والجيش (الأمن الخارجي)”، و تطرق الى سياسة التعليم والجامعات، وغيرها من الامور الحساسة. وهكذا فعلت الاحزاب الاخرى بتقديم برامجها منها حزب الخضر والحزب المسيحي الديمقراطي، والحزب الليبرالي الديمقراطي، وتحالف اليسار الجديد؛ جميعها طرحت برامجها الانتخابية بوضوح حتى تكون امام الشعب.
اما لدينا في العراق، فالغريب ان المتنافسين يحاولون احياء مشاريع ميتة ثبت فشلها، فيتحدثون بمنطق التقسيمات الطائفية والمذهبية والمناطقية؛ ولم نجد احدا يتطرق الى الازمات التي يعاني منها الناس وكيف سيحلونها اذا حازوا على المناصب الحكومية من قبيل ازمة الكهرباء والخدمات وغيرها، الامر الذي اثبت برأيي صحة موقف المقاطعين للانتخابات الذين يظنون الا فرق يحدث في مجمل متطلبات حياتهم ايا كان من يتبوأ المنصب الحكومي المقبل او الوزارات التي يتملكها تحالف او حزب ما، فممثلوهم يستنفرون قواهم في الفضائيات ليتحدثوا عن استحقاقهم الحكومي حتى الخاسرين منهم في الانتخابات، من دون ان يقولوا لنا ما الذي سيفعله وزيرهم الذي يرشحونه للوزارة المعنية.
ان العمل السليم ورفعة البلد تتطلب تحديد البرامج والواجبات بصورة واضحة، فالسياسة كما قلنا لا قيمة لها اذا لم تسع الى الخير وسعادة الناس، لأنها بخلاف ذلك تكون جالبة للتمزق والفوضى وسوء الادارة والفساد، وهو ما لمسه الشعب طيلة الثمانية عشر عاما الماضية منذ التغيير في 2003 وهو امر يجب الا يتواصل اذا اردنا بناء دولة متقدمة تسعى لخدمة ابنائها بتنوعهم؛ الذي هو مصدر للقوة وليس مظهر للتقسيم والتنافر والصراع على المكاسب مثلما يعكسه المطالبون بالمناصب في ظل غياب برامج واضحة لخدمة المجتمع والناس، الذين يريدون عملية سياسية بناءة تقودهم الى الخير والرفاه انسجاما مع الطاقات المادية والبشرية الهائلة التي يمتلكها البلد، ومن دون ذلك سنظل ندور في الفراغ وننتقل من سيء الى اسوأ، ولن نستطيع بناء بلد حر يليق بشعب كريم؛ فالعبرة بما نحققه للناس، وليست بمقاعد نيابية نفوز بها هنا او نفقدها هناك، وجميع ذلك متعلق بتشكيل حكومة فاعلة معتبرة، كي لا تتعاظم الجروح ويتعمق الانهيار.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة