عبد الله السلايمة
أخبره ابنه الوحيد برغبته في الزواج، فضاقت الدنيا بفرحته وراح يشاركه البحث عن عروس، وأقام لهما حفل زفاف ظلّ محور حديث القبيلة لفترة طويلة، حتى حدث ما لم يخطر على بال أحدهم.
بدا الأفق في عيني الشاب ضبابيًا، والكثبان الرملية الممتدة أمامه كأشباح، ووجه زوجته المراوغ يظهر ويغيب.
يظهر فتحتدم روحه بمشاعر متناقضة، فتارة تحدوه غصة على ذلك الضعف الذي صار عليه أمام فتنة جمالها وتعلق روحه بها، لدرجة جعلته يتعمد غض بصره عن إساءاتها المتكررة لأبيه، وإصرارها في النهاية بشكل كشف قبح داخلها على وضعه أمام اختيار قاتل، قائلة: إما هي أو أباه.
وحينما يغيب وجهها يشعر بثقل الذنب على صدره، وتحت وطأة احتدام الأسئلة في داخله، وعجز رأسه المظلم عن التوصل إلى إجابات شافية عليها، يستسلم لضعفه وحيرته ويسلم جواده للركض، بينما تركض غربان مخيلة أبيه في متاهات ماض، مازالت رائحة عفونته تزكم أنفه.
الشمس تزحف متثاقلة إلى حيث مرقدها خلف نهايات أفق، بدا في ناظري الشاب من بعيد أشبه بخيط رفيع يشبه ذاك الذي مازال يصله بأبيه، وتصرّ زوجته على قطعه.
واصل الجواد ركضه، فيما كانت تتعزز بداخل نفس كل منهما، درجات متعاظمة من مشاعر الخوف والرهبة. وكمحاولة أخيرة للبقاء تشبث الشيخ بابنه، لكنه ما لبث أن أفاق من سراب أمله على توقف الجواد فجأة، فتوقفت أنفاسه الحبيسة داخل تابوت روحه.
ترجل الابن عن صهوة الجواد، ودون أن ينظر إلى وجه أبيه، قال: انزل.
ثمة غربان تحوم فوق رأسيهما، في تثاقل فتح الأب عينيه المطفأتين، وكأنه يحدّق إلى وجه الماضي الماثل على الدوام أمام عينيه، راح ينظر إلى الغربان في شرود.
أشفق على ابنه من لحظة مماثلة، من المؤكد سوف يعاني إن عاجلا أم آجلا بشاعة قسوتها، مثلما يتجرع الآن كأس مرارتها، وكما لو كان يعاقب نفسه أشار على ابنه بمواصلة السير، قائلاً: ليس بعد.
دارت دوائر الحيرة برأس الشاب، امتثل لرجاء أبيه، لكز الجواد بقدمه، لم يستطع منع نفسه من سؤال أبيه: لمِ أمرتني بمواصلة السير؟
تجاهل أبوه سؤاله لائذا بصمته القاتل حتى لاح له شبح شجرة الَسِّدْر التي يعرفها، شعر برعدة باردة تسري في أوصاله، راحت تتصاعد كلما اقترب من السدرة، فيما يزيد الصمت المتكاثف حولهما من ارتباك الشاب، الذي بلغ أشده حين باغته أباه: قف هنا.
جذب الابن لجام الحصان فتوقف.
.“فلتساعدني يا بني على النزول” قال الأب
ففعل الابن مشوشًا ومرتجفًا.
وكما لو كان يحاول الفرار من قسوة اللحظة أدار عنان جواده وأسرع عائدًا، تاركا أباه خلفه ينظر في وحشة إلى السِدرة التي ترك والده بدوره ذات يوم بعيد بجوارها بلا شفقة وفر هاربًا، كما يفعل ابنه الآن تمامًا.