القصر العباسي.. تحفة آثارية وصرح معماري ساحر

وداد إبراهيم

حين تدخل القصر العباسي كزائر او مواطن عادي او باحث او صحفي او أستاذ في التاريخ او  من المهتمين بالعمارة فلسوف تشعر انك في مشهد تاريخي يعود لمئات السنين، وما ان تنزل سلالم قليلة وعريضة لتدخل ارجاء القصر ستشعر أن هناك أناسا لهم الكثير من العظمة والهيبة عاشوا في ارجاء هذا الصرح الذي يجعلك ترفع رأسك صوب السماء. الدخول الى عظمة التاريخ يشعرك ببرودة الجو داخل القصر المظلل والمضيء في بعض ارجائه، اذ تختلط رائحة الآجر مع رائحة الطابوق الأصفر ويلفك صمت وسكون.

ما إن تدخل القصر حتى يلفك هواء بارد ذلك لان البناء مصمم ليكون باردا في الصيف ودافئا في الشتاء بالإضافة الى انه يقع على ضفاف دجلة ومحاط ببساتين.

هكذا حدثتني مدير القصر الاثارية (كرامة هاشم عبد الرضا) اذ رافقتني جولتي في القصر العباسي العائد لدائرة الاثار والتراث في وزارة الثقافة، والتي استوجبت استحصال الموافقات الأصولية من مفتشية اثار بغداد ودائرة الاعلام والعلاقات في دائرة الاثار والتراث.

وأضافت: علما ان البناء يعود الى أواخر العصر العباسي وبالتحديد فترة حكم الخليفة (الناصر لدين الله والمستنصر لدين الله) وعمر هذا الأثر 900 عام وهو بناء يتميز بقوته ومتانته مبني بمادة الآجر (الطين المشوي بدرجة حرارة معينة).

سر الصمت والهدوء في القصر

وتابعت: أهم ما يميز هذا البناء ان كل مكان فيه له خصوصية في البناء مثلا الآجر الذي يستخدم للجدران والسقوف يعرض الى درجات حرارة عالية حتى يكون أكثر متانة وصلابة، والاجر الذي يستخدم للزخارف يعرض الى درجات حرارة متوسطة وخفيفة حتى يستطيع النحات والمهندس من عمل الزخرفة والنحت بكل انسيابية ومطاوعة كما ان الآجر المستخدم في الغرف يعرض لحرارة عالية جدا ليكتسب قوة أكثر.

أما عن سبب الصمت والهدوء فيه فقالت: أهم ميزة معمارية يتميز بها القصر هو سمك جدرانه التي تصل الى المتر وهذا ما يجعله محصنا ويمنع ضجيج الخارج من الدخول الى عمق القصر، ويجعله غير حار في الصيف وغير بارد في الشتاء، وفيه 40 غرفة في الطابق.

ارتفاع يعطي هيبة وزخارف تنتمي لعدة مدارس

الأرضي 18، وفي الطابع العلوي 22، وفيه مسجد صلاة وايوان،  وما يعطي للقصر الفخامة والهيبة هو ارتفاع بعض اجزائه مثلا الايوان ومسجد الصلاة، والقاعات الأربعة  الكبيرة لما يصل الى تسعة امتار، واذا ما دققنا في الزخارف الجميلة فهي تنتمي الى عدة مدارس ونماذج مثلا في ممراته  زخارف الاربسك (زخرفة اصلها من العراق انتشرت في الفترة العباسية ووصلت الى الدول الاوربية وتسمى في بعض الدول الرقش العربي) وتمتاز بالتكرار والتماثل واللامحدودية ليس لها نقطة بداية ولا نهاية وتمتاز بظاهرة النمو، انجزها فنّانون ونحّاتون ومهندسون. والاربسك لها عدة أنواع في القصر منها نباتية وهندسية وخطوط عربية وزخارف متداخلة بين نباتي وهندسي، بالإضافة الى احتواء  بعض ممراته على زخرفة (خلايا النحل) والتي تتخللها زخارف الاربسك على شكل اغصان ملتوية ووريقات، ومن المشاهد الجميلة في القصر مشهد (العقود المنفوخة المدببة) وهو فن من فنون العمارة الذي يعطي للمكان هيبة وقوة وجمال.

ذكاء معماري نادر

أما عن المدخل الرئيس فقالت: في المدخل الرئيس دعامات تعطي للمكان فخامة وتقلل الضغط على السقف والجدران، وهذا يدل على ذكاء المعماري والمهندس الذي أشرف على بناء المكان، بالإضافة الى وجود(البوائك) وهي (سلسلة من العقود بينها دعامات من الأعلى تكون مستقيمة وتسمى البائكة اشتهرت بالفترة العباسية) التي تطل على الصحن.

وتابعت: اختلف المؤرخون بتسمية هذه البناية البعض قال “انها مدرسة “كونها تعود لنفس الفترة التي بنيت فيها المدرسة المستنصرية وللتشابه في مواد البناء والزخرفة والتخطيط المعماري وحتى مادة الآجر ووجود الايوان الذي كان يختص بتدريس المدرسة الشافعية، والبعض الاخر من المؤرخين مثل (يعقوب سركيس ومصطفى جواد) اكدوا انه قصر عباسي،  وفق  لما جاء به الرحالة (ابن جبير) بأنه قد رأى الخليفة الناصر لدين الله يصعد من المنظرة (مكان يراقب منه ما حول المدينة) الى قصره كما وجد علماء التاريخ أن هناك خصوصية  في البناء فالمدخل الرئيس يطل على النهر والجزء الخلفي يطل على الشارع الرئيس وعند الدخول نرى انحناءً في البناء أي اننا لا نرى الغرف ومرافق القصر مباشرة، وهذا ما يعطي خصوصية للقصر ويدل على استقلالية المكان وهذا عكس ما موجود في المدرسة المستنصرية، اذ يقع مدخلها على الشارع الرئيس وعند الدخول نكون في مواجهة مع مرافق الأثر، بالإضافة الى أن في القصر غرف صغيرة وخلفها غرف كبيرة يرجح انها كانت لشخصية مهمة، وأنا كآثارية اجد أنه قصر وحتى لو كان مدرسة فأنها مدرسة خاصة بالخليفة او لعائلته او للوزراء.

  واكملت: مساحة الأثر تصل الى 2000 متر مربع، في عام 1934 تبنت دائرة الاثار الصيانة في القصر واستمرت الصيانة للقصر حتى عام 1980 حتى ظهر بهذه الجمالية علما انه في الفترة العثمانية اصبح جزء من القلعة العسكرية واصبح مخزن للسلاح وسمى (بالبارود خانة ) أواخر الفترة العثمانية، وفي عام 1942 استخدم كمتحف إسلامي لعرض القطع الاثرية الإسلامية من سامراء والموصل.

واكملت: يعد واحدا من أجمل وأبهى وأعظم الاثار التي تركها العباسيون وحتى الان يحافظ على جماله وشموخه وقوة بنائه.

نعم قد لا يكون معروفا لدى الكثيرين لذا فهو بحاجة الى حملة إعلامية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي للتعريف به وليكون مرفقا ثقافيا وفنيا وتاريخيا كبيرا.

بيت الحكمة يطالب بتوليه

مظفر الربيعي مدير اعلام بيت الحكمة قال: الحديث عن البيت العباسي هو حديث مهم لان هذا الأثر التاريخي والقيم والمهم يجب ان يأخذ مكانته ويجب ان يعرف بكذا اثر حضاري وتاريخي وهو القصر الوحيد الذي تم المحافظة عليه في بغداد  لما يمتاز من قوة جدرانه وبنائه ولا يوجد قصر عباسي اخر بهذا البناء والطراز والهيكلية، توجد قصور عباسية في سامراء لكنها شبه مهدمة  هناك دعوة لوزارة الثقافة للاهتمام بهذا القصر لأنه محط انظار كل السياح الوفود التي تأتي الى بيت الحكمة يطلبون منا زيارة القصر العباسي باعتباره بناية مجاورة لبناية بيت الحكمة ونقوم بأخذ الموافقات للزيارة ونقدم لهم  الشرح والتوضيح عن تاريخه وعظمة بنائه، وهو معلم نفخر به وتبقى الدعوة قائمة الى دائرة الاثار بأن تولي الاهتمام والعناية والصيانة وتهيئة كوادر لإدارة هذا الأثر والصرح الحضاري ليظهر بشكل اجمل، طلبنا ليس بشكل رسمي بل شفهي باستلام القصر العباسي، وان يتولى بيت الحكمة إدارة هذا الصرح الحضاري وتهيئة الصيانة التي تحتاجها إدارة البيت لكن هيأة الاثار رفضت ذلك وقالت” بأن هناك ضوابط وقوانين تمنعهم من تسليم المواقع الاثارية الى أي جهة أخرى” ونحن نحترم هذا الاجراء للحفاظ على المواقع الاثارية.

كتب عنه لويس ماسينيون ونسبه الى العمارة الاسلامية

غادة رزوقي رئيس قسم العمارة في كلية الهندسة قالت: في عام 1908 اثار القصر العباسي انتباه الباحث لويس ماسينيون فكتب ووصف مزاياه وزخارفه ونسبه الى العمارة الإسلامية، والقصر يمثل معلما معماريا مهما ذو تصميم مميز يعود للحقبة العباسية ولازال باقيا بعد اجراء الصيانة التي بدأت منذ ثلاثينات القرن العشرين حيث كان في حالة مهملة جراء استخدامه موقعا للمدفعية (البارود خانة). وبقيمته المعمارية وموقعه على النهر وريادته المميزة من الممكن ان يكون محطة مهمة للنشاطات الثقافية والفنية.

قد يكون ضمن التراث الإنساني لليونسكو

وأضافت رزوقي: هو من الأبنية التي تنال ترميما دائما من قبل الاثار، أقمنا مرة مؤتمرا للمعمارين فأخذناهم الى القصر العباسي وهو في أروع صوره واقامت الفرقة القومية اوبريتا اثار اعجاب كل المعمارين، ومن غير الممكن ان يلحق بأي دائرة او وزارة أخرى قد يتعرض لانشاء نظم مياه او تبريد او غير ذلك ما يغيب بعض معالمه المهمة ويجب ان يبقى لدائرة الاثار وامام اعين الآثاريين، هذا الأثر العظيم يعد مهما جدا وممكن ان يدخل ضمن التراث الإنساني لليونسكو ولا يمكن ان يكون له غير وظيفة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة