المدلول المضمر
إبراهيم رسول
إذا كان تعريف القصة «بحسب تعريف عبد الرحيم كردي في كتابه السرد في الرواية المعاصرة ط2 ص59: بأنَّها المدلول أو المضمون السردي, ويقصد بها العالم الخيالي الذي يبتغي القاص نقله إلى القارئ عن طريق اللغة, ويمكن نقله بوسائل أخرى مثل السينما أو الصور المتحركة, أو اللوحات أو غير ذلك لكن العنصر الجوهري فيها التتابع الزمني المطرد لمجرى الأحداث. و (جبل الأماني) التي هي إحدى قصص مجموعة « العابرون» تعد نسيجا أو نمطا جديدا حديثا مكتوبا بلغة غير لغة القص التقليدي, فلا تكاد تلمس النسق الذي تكتب به, فهي مزيج من أنماط عدة في بناء متعدد الأوجه, لعبة التذاكي أو المخاتلة أو الرياضة الفكرية هي أقرب ما تتصف به هذه القصة بل المجموعة كلها, الاضمارُ كما هو واضح أي المخفي أو المبطن ما بين السطور, وهذا الاضمار هو لعبة قلَّ بل ندرَ من كان حاذقاً فيها, لأنها تعتمد بث اسلوب يدعو إلى الخيال البعيد الذي ينفتح على تأويلاتٍ عدة لأوجهٍ شتّى. لعل متتبع الاسلوبية سيجد المادة الدسمة أو الوفيرة لبحثه الذي يتتبعه في سرديات مجموعة ( العابرون), فلو تأملنا قولها: (والظلمة ضمن جدران خوف الداخل أشدّ هولًا من حلكة الخارج) هنا يقفُ الذهن حائراً بهذا اللغز الذي يرسمه النص على خيال بعيد ليوهمَ المتلقي بكيفية مسك حبل النص وتطوره, إذ في الحالتين ظلمة وفي الحالتين خوف ورهبة! لكن ظلمة الداخل شديدة مرهبة مرعبة تبعث أزمة من القلق أكثر, هذا وصف لحيرة النفس التي تتخبط في مطاوي الحياة باحثةً عن نقطةِ استقرارٍ من هذا التشظي الذي صار سمة إنسان العصر الحديث, وهذه النفس في دوامة الحيرة إذ السواد هو ما يحيط العين. والروح تتأرجح بين سوادين لا بصيص للنور بينهما, فلو أحصينا البلاغة المضمرة في القصة لرمى وصفنا القصة بثلثيها, ولكن سنشير إلى بعض منها كمثال لما نود أن نبحث عنه وهو المدلول المضمر, فمثلاً (يذهب كلّ يوم ليقطف حبّة خردل ويضع مكانها أمنية) و(وكانت السماء تستعير منه دموعها) و (خذ قلبي وروحي وما أملكه من أعضاء سليمة) و(العطاء يا زينة أن تعطي ممّا لك، وليس من الفائض الذي لديك) و(فالطين بلا ماء لا يعمّر بيتًا، كذا الماء بلا طين، يروي، لكنّه لا يبني بيتًا) و(ما عاد الوقت زمن ندم ولا تراجع. ما عاد الإتّجار بالسياسة والدين مباحًا) و(هي نفسها صارت تلاعب الرماد، وتبني منه للنار مسكنًا جديدًا، يجدّد اشتعالها). وكما يعرف سوسير المدلول بأنه: الصورة الذهنية أو الفكرة عن الشيء. بهذا الاختصار التعريفي من عالم اللسانيات يعني أن الصورة التي يتخذها الذهن لها بعد أدبي في الاشياء ما حوله, وكما يقول د. صلاح فضل في كتابه نظرية البنائية ط3 ص303: (فهذا الدال يدل على ذلك مدلول وهذه الحقيقة تقتضي أخرى وهي أن الحادثة ترمز لفكرة وتلك الفكرة توضح نفسية الشخصيات وهكذا, أما علاقات الحضور فهي علاقات تكوين وتصور). وما قامت عليه القصة من بناءٍ سردي ينطبق عليه القول بأنه بناء متعدد الأوجه ولها صورة تأويلية يكونها الذهن, قد تجد أن الانغماس بفلسفة النص وأو صبغه بقالب فلسفي يسلب القصة حكايتها التي هي العلامة الأبرز فيها, لكن في أحيانٍ أخرى يكون النص الفلسفي مرآة تعكس الصورة الذهنية للنص, وتحوله من نص عابر بسيط إلى نص يحول الصورة التأويلية الكثيرة, القصةُ تدخلك بمتاهة من لحظة القص الأولى, كأنك تقرأ شيئاً آخر لا هو من الأدب ولا من السرد حتى, إنه تأملٌ فلسفي, الشخصيات لها أثر يدل عليها والنص حركها بتفاعلاته وتطوره, الشخصية مثلاً, كانت تتحرك وفق مخطط متعدد الطرق, لا تهتدي إلى طريقةٍ تسلكها لتعرف كيف سيتم تطور الحدث القصصي, لكنك حالما تمضي في قراءة القصة حتى نهايتها لتتبين لك صورةً ذهنيةً أخرى غيرَ التي كنت قد تصورتها لحظة بدأ القراءة, هنا لا بدَّ من عودةٍ إلى الوراء لتعيد رسم الصورة الذهنية التي صبغت بها الدماغ, وكما يرى تودوروف أن هناك فرق بين قصة الكاتب, والقصة التي شكلها القارئ, فالكاتب يبدأ بالقصة وينتهي بالخطاب والقارئ يبدأ بالخطاب وينتهي بالقصة.( السرد في الرواية العربية المعاصرة, عبد الرحيم كردي ط2 سنة 2006). نلمسُ هذا واضحاً جلياً في قصة جبل الاماني, إذ إن القارئ يبحث عن خطاب ولعل أول ما يشده هو الخطاب من خلال القصة, لكن ما يمز قصة جبل الاماني أنها لعبت على وترين متناوبين, فهي لم تحرق نفسها أو بالأحرى لم تسلم نفسها كاملةً للقارئ, بل تركت الكثير من الغموض والتشويق حولها, وعنصر التشويق ساير حبكة القصة تدريجياً حتى وصلا إلى الخاتمة, عبر استخدام المدلول المكثف والمضمر, فلو سألت النص كيف يفسر نفسه لجعل من خلال التفسير ما تحتاج به إلى تفسيرٍ آخر وهكذا دواليك حتى تتكون العديد من الصور التفسيرية وهذا كله بسبب انفتاح النص وجعله حمالُ أوجهٍ كما يُعبر في بعض الأحيان, القصةُ تحكي وتسرد عبر خطابها الفلسفي المشاعر الانسانية وتحكي للإنسان عبر سلسلةِ أحداثٍ مأساوية تعيشها الشخصية, هذه الشخصية هي مرآة تعكس واقع المرارة والخيبة الذي تمر به شريحة كبيرة من البشر اليوم وهم يرزحون بأعباء العديد من المشاكل والامراض الحياتية, المدلولُ الذي اشتغلت على القصة بأنها تريد أن تكون صورة جديدة للمتلقي عن الحدث, وهذه الصورة ظهرت مكثفة بخيال كبير وواسع, الصورُ التي أضمرها النص كثيرة ولعل النماذج التي اتخذناها تحتاج إلى تفسيراتٍ كثيرةٍ لتوضح الصورة عبر تفكيك الجملة وإعادة البناء الذي بُنيت عليه, وهذه يحتاجُ أن نفكك العبارات التي تتصف بديناميكية مستمرة, فالمدلول بابٌ يفتح للعديد من الأبواب والابواب تفتح للعديد غيرها وهكذا يستمر المدلول مضمراً إلى في مخيلة صاحب النص, هذه ميزة تعني أن النص لن يستهلك وسيحافظ على ديمومته وغضارته وبريقه الواضح الملموس.