المرجعيات الثقافية في «صحيفة المتلمس» لـ عبد الأمير خليل مراد

كمال عبد الرحمن

ثمة شعراء يمكن تسميتهم ب(ابناء التأريخ) فهم الورثة البررة لتراثنا المجيد، كلما ضايقهم (الحاضر) بشيء، ذهبوا الى التأريخ وجاؤوا بحل لكل مشكلة، هؤلاء يحتمون في صناعة نصوصهم بالمرجعيات التاريخية والتراثية والاسطورية وغيرها من وسائل التعالق النصي، التي تثري القصيدة وتعمق رؤاها وتوسع فضاءاتها وأخيلتها ، هؤلاء لايكادون يبصرون الاشياء الا من خلال الماضي الناصع المجيد.
لقد خطا الشاعر عبد الامير خليل مراد خطوات متقدمة في بناء لغة شعرية، امتازت بقدرة عالية في نقل تجربته اعتمادا على جملة من الخصائص التي تأتي في مقدمتها، استعمال المرجعي الآيدلوجي (تاريخ ـ تراثــ ـ فكر ــ سياسة)، وبُعد هذه اللغة عن الألصاقية والتزيين البلاغي والنمطي(1)، فالشاعر عبد الأمير يجد نفسه في لغته التي يمكن وصفها بأنها لغة تجربة لا لغة استعراض(2) وبهذا تجيء متناسقة مع تجربته،فالشاعر يتحاور معها ويتجذر فيها، قبل ان يسقيها شعريا.
إن الشاعر عبد الأمير يضعنا ـــ رغم مرجعياته المعروفة ـ أمام ظاهرة الممارسة اللغوية الحداثية، التي لا تعبأ بالزخارف البلاغية والحشو، فالمهم عنده ان تخلق شعورا، وتترك أثرا عبر تركيزها وتكثيفها وبساطتها لا بلاغتها المقتولة(3)، يبدأ شاعرنا بالتعالق النصي مع المصحف الكريم:
‏هذه الشَوْكةُ تابوتٌ تَدَلّى
‏مِنْ ضَميرِ الحَجَرِ الأسودِ هَمْساً
‏كيفَ أَخْفَى ما تَبَّقى في ضُلُوعي مِنْ رَمَقْ
‏رُبَّما ‏أَمْعَنتُ ظَمآنَ وتَحْتِي فَرَسُ
الخِضْرِ …
‏ورَأْسِي صَوْلَجَانْ
‌‏رُبَّما أَدرجُ كالحاطِب ( في وادٍ غَيْرِ ذَي زَرْعٍ ) نَجِّياً
‏وَتَمَنَّيتُ … تَمَنَّيتُ
‏سَفِيْنِي كَوْكَباً مِنْ أقْحِوان
‏وَرَأَيْتُ البَحْرَ دُوني قَلِقاً
‏وَبَقَايا جَسَدي لصْقَ الغَمَامة( قصيدة:‏شَوْكةُ المَوَاريث:ص33)
ان الشعر العربي الحديث من بين جميع الاشكال الادبية، يبحث دائما عن التجريب في اللغة، وتشكيلها في بنية النص وفق متغيرات، فتحولت اللغة من لغة تعبير الى لغة تعتمد محاكاة مظاهر الاشياء في انعكاس امين الى لغة تخلق الاشياء وفق نظرة آيدلوجية وبنظرة فكرية جديدة،فمن لغة تنقل الطيبعة الى لغة تبدع وتعيد خلق الطبيعة(4)
فالكلمة هنا تتجاوز مدلولها( الشوكة /تابوت/ضمير/ فرس/ الخضر/ رأسي/صولجان/ سفيني /البحر/ جسدي/ الغمامة..الخ)، وتشير أكثر مما تعبر، الشاعر لا يستخدم لغة اعتيادية، بل يثور على اللغة ، ويثور على كل شيء في هذا الكون، ويفجر اللغة من الداخل، فلا يستعمل كلمة ما الا لتخلق موضوعا ساخنا ثائرا، وتتشكل ببنية شعرية ايدلوجية مغايرة تتفاعل وتتطوربحثا عن تمرد وأختلاف في نص مثير وحقيقة لاحقيقة فيها الا الثورة!
نعيد القول المرة الألف( الشعراء مشرعو العصر) وعبد الأمير أحد مشرعي عصره حقا وصدقا، شاعر من مواهبه القدرة على صناعة نص درامي، يخلق صراعاته( صراعات النص الداخلية/ الخارجية) هو يهندس فعالياته الشعرية، وأخيرا هو الذي ينتصر في كل معارك النص، يأتي بالتاريخ ليحاكم به جرائم الحاضر، ويستنجد بالتراث ليكشف عورات الخطأ، يذكرنا دائما بأننا على حافة اللظى..أحترقنا أو نكاد نحترق!:
‏ذلِكمْ نارُها
‏جَسَدٌ ليسَ فيهِ سوى فيئهِ
‏يَتَخَطَّى بهيكلهِ النِضْو مَوْجَ الزَمانِ
‏ويَهْتِفُ ها أنذا أَسْكُنُ العاصِفَة
‏‏يَضْرِبُ البحرَ بالبَحْرِ منْ قَلَقٍ
‏وَيُرَقِّقُ دَمْعَ ‏العَصافيرِ حَينَ تهُبُّ
‏على ‏النَبْعِ مِنْ مِدْيةٍ خائِفة
‏عاشِقٌ كالذبالة إذ تَسْتَطِيلُ
وكالنَهْرِ في الوَاحَةِ
‏الوارِفَة
‏وَزَّعَتْه المواسِمُ في ‏بَيدرِ الحِلمِ ناياً
‏وَدَثَّرهُ ‏الحُزْنُ بالأُمنياتِ
‌‏وَهذه النُجُومُ عَنِاقيدُهُ الناضِجاتُ
‏تَدورُ على الشَفَةِ الذابِلة
‏شاعِرٌ ما تَسَنّى لَهُ غيرُ أوهامِه
‏وبَقِيّةُ رُوْحٍ تَضِجُّ بأحْلامِه
الآفِلَة
‏المُنى … كِلْمةٌ … كِلْمتانِ
‏وَيَنْهَمِرُ الشِعْرُ جَمْراً به
‏يَسْتَقيلُ دَمُ القَلْبِ من لَونِه
لايكاد هذا الرجل يخرج من التاريخ الا ليدخل اليه من جديد ،فهو ابن التاريخ البار كما قلنا،لذلك فان النص الشعري عند الشاعرعبد الامير يعاني معاناة شديدة من كثرة الضغط الذي يدفعه الشاعر في ثناياه، فلاتكاد القصيدة تأخذ انفاسها،حتى يعود الضغط بسيل من المرجعيات الايدلوجية التي بامكانها أن تشكل رؤية معاصرة من خلال وقائع ماضوية أو موغلة في الماضي كتلك الاحداث التي من عمقها في التاريخ لانكاد نعرف متى وقعت بالضبط:
يَقْذِفُني لِتُخُومِ المَوْتِ الأزْرَقِ
‏يُشْعِلُ في عَيْنَيَّ كَوَابِيسَ المُتَنَبّي … سَقْراط
… المَعَّري … ‏الحَلاّج …..السَيَّابَ وَدِعْبلْ
‏يُطْعِمُ أَنْقاضِي لِفُتُوحٍ أُخْرى
‏وَصَدِيقِي في اللُجَّةِ ‏طاسُ الكَوْثَر
‏أَفَيعْصِمُني في جَبَلٍ أرْحَمَ مِنْ هذا السَّيْفِ
المَسْلُوتْ … !
يقول بدرشاكر السياب:
((هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحديث: هو اللجوء الى الخرافة،والاسطورة،والرمز،ولو لم تكن الحاجة الى الرمز،أحسن مما هي عليه اليوم،فنحن نعيش في زمن لاشعرفيه))(5) ان قصائدالشاعر عبد الأمير هي قصائد رموز في أغلبها:
بِأيِّ فَمٍ سَتَقُولُ القَصِيدة
‏الرَّبَابَةُ دَارَتْ بِنَا مِنْ زَمَانْ
‏وَعَلَى حائِطٍ مِنْ رَمِيمِ البَقَايا
‏رَأَيْتُ المَدِينةَ تَبْكِي ‏ …. وَفَانُوسَها
‏جُثَّةً فِي الظَّلامْ
‏رَأَيْتُ الشَّوَارِعَ واللاّفِتاتِ (وَشْيئاً تَبَقَّى)
‏تَوَابِيتَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ خَنَاجرَ مَصْفُوفَةً
‏فِي ضَمِيرِ السَّلامْ
‏وُقُوْفاً فلي أَحْرُفٌ
‏مِنْ سُؤَالِ المَقَابرِ كانَتْ مَعِي
‏ذلكَ الصَوْلَجَانْ
‏أَهُشُّ بِها ‏خَافِيَاتِ الحُجُولِ وَدَيْجُورَها
‏البَرْبَريَّ هُتَافُ الأَضَاحِي
‏لأَلْقَفَ بِالفَأْسِ نَجْمِي
‏وِأُدَحْرِجُ مَا ظَلَّ مِنْ هَيْكَلِي فِي الزِّحَام
‏صَارتِ الأَرْضُ دَوَّامَةً وَأَمَانِيَّ …. يا صَاحِبي
‏ ‏كَالحِرابْ
‏وَمَرَايا النَّهَارِ المُسَيْطِرِ أُرْجُوحَةً
‏فِي السَّرَابْ
‏فَالذي رَاحَ فِي حَبَبِ الكَأْسِ
‏أَوْ ظَلَّ يَا شَاعِري
‏» الأَبْطَالُ فِي الرّوَايَةِ ، القَصَائُد ، سَفَائُن المَحَار
‏، الحُرُوفُ الهارِبُةُ مِن الأَصَابعِ ، ضَفَائِرُ
الحَبِيباتِ حِكْمَةُ أَبِي «
حَفْنَةٌ مِنْ تُرَابْ
( توابيت: تعميم حال القتل والدمار في العراق)و(العنقاء: اعادة بعث من طيوف المستحيل)و ( المدينة تبكي:كناية عن تفشي اليأس في عيونها)و (خناجر مصفوفة: انتشار وسائل الذبح اليومي في العراق)و(في ضمير السلام:اغتيال نجمة الأمل في الضمائر)( وِأُدَحْرِجُ مَا ظَلَّ مِنْ هَيْكَلِي:رمز عن احباط متكالب في طريق الانتصارات) و(مِنْ سُؤَالِ المَقَابرِ : اغتيال الأسئلة الكبرى وانتشار مباضع التشيؤ).. الخ.
ان من حق الشاعر أن يفيد من الرموز كافة، بحسب ما تنطوي عليه من إيحاءات ودلالات إنسانية وترابط وظيفي لبناء القصيدة، وتحدثنا عن (الأساطير المدنية) في بعض نصوص الشاعر عبد الأمير بما فيها من وحوش آدمية تقهقه في ظلام الدم، أما الرمز فهو واضح في هذه القصيدة من خلال (الذاتي والموضوعي) أي رموز الشاعر الخاصة، ورموزه الخارجية الأخرى، لكننا نقول قبل ذلك أن الرمز ((هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص، فالرمز قبل كل شيء معنى خفي وإيحاء، إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي القصيدة، أو هو القصيدة التي تتكون في وعيك بعد قراءة القصيدة، إنه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالما لا حدود له، لذلك هو إضاعة للوجود المعتم، واندفاع صوب الجوهر)) ، ومن رموز عبد الامير الذاتية يمكن أن نجد:
مشرعو العصر
الشعراء ضوء في نهاية النفق
نبض الانتفاضة

                            رفض

الصراخ وعي
تغيير
وهناك كثير من الرموز الذاتية التي أبصرها وعي الشاعر ورسمها وجدانه المتألم، كما أن هناك رموزاً أخرى، منها (التأريخي/ الشعري) و(الاسطوري) و(الديني) وغير ذلك:
المعالي
المتنبي حكمة
فرادة
وتكتمل الصورة الشعرية بنيوياً بثلاثية (التاريخ/ الرمز/ التراث), حيث أبدع الشاعر عبد الأمير خليل مراد في قصائده هذه التي اشتملت على مقومات القصيدة الدرامية الناجحة, وحققت انفتاح النص على تعدد القراءات, كما أن الشاعر له اشتغالات داخل اللغة بالغة الأهمية, إذا أستطاع أن يشق لنفسه طريقاً إبداعيا متطوراً ولغة هي لغته الخاصة, والمتتبع لشعره سيلاحظ العلاقات التي يقيمها بين ألفاظه, وهي علاقات تحتاج إلى الوقوف عندها ـ غير وقفتنا هذه ـ, أنها قصائد صيغت بشعرية الكلام وأضيفت إلى ابداع عبد الأمير خليل مراد.

الهوامش والمصادر والمراجع

  1. الحداثة في شعر البريكان،د.فهد محسن الرفحان، مجلة الاقلام، بغداد،ع(3) 2000،:27
    2.م.ن:27
  2. شعر أدونيس، البنية والدلالة، راوية يحياوي، منشورات اتحاد الكتاب العرب،سلسلة دراسات(1)،2008،:13
    4: م.ن:13

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة