عبد الحسين رشيد العبيدي
ليس هناك مجال للشك , الصوت واضح , وقد تكرر هذا كثيرا .أدسُ رأسي تحت اللحاف و استرق السمع . أحاولُ سماع كل شيء وانا أقطع أنفاسي. يسود الصمت ثانية . هذا السكون المربك هو من يجعلني يقظا.
… بعد عودة ابي محمولا على سطح سيارة , انتقلنا , أنا وأخوتي ,الى النوم في غرفة أمي , نبادلها مشاعر اللوعة . ننام على السرير, وتفترش هي الأرض قرب دولاب الملابس . أشعر بها أحيانا ترتب الغطاء فوقنا .
تهمس لشخص ما: أخاف عليهم من البرد .
يعلو صوتها بالنشيج ,تغلق باب الدولاب وتغط في نوم قلق.
ينهكني هذا العسر الذي يُحيطنا . يوقظ الهمس المربك فضولي , ينهشني بشراسة . لا أعلم ما الذي يجري على وجه الدقة. كنت فردا أعزل بمواجهة قبيلة من الشكوك.
مع من تتكلم أمي ؟ من يختبئ في الدولاب؟ لم تكلمه ونحن نيام ؟ ما الأمر يا ربي ؟ أسأل نفسي وأمسح دموعي .
هذه الأحاديث المدوية تتكرر كل ليلة. أغمض عينيّ وأحاول نسيان الأمر دون جدوى , لم اكن جاهزا ليوم كهذا.
… افتحُ باب الدولاب خلسة لأرى .لا أحد سوى بدلة معلقة في كيس من النايلون, كان أبي يلبسها في المناسبات النادرة … أشعرُ بها تحتكُ بي , تربتُ على رأسي.
– سألبسك حين أكبر : قلتُ لها .
– أزحتها جانبا , فتحت أبواب الدولاب الأخرى , لا شيء البتة سوى ملابسنا العتيقة . .
كنت اكبر أخوتي عندما غادر ابي ممتلئا بالروح الوطنية. أنا مثله كما تقول أمي : طويل , رفيع ,اسمر اللون بعينين سوداوين وأنف كبير ,بينما فاطمة بيضاء , بشعر اسود طويل كأمي , التي حرّضت ملابسها السود الرجال عليها .
لم أرهُ مذ غادر. كنا تحت مستوى منفلت من التحامل المذهبي … حفلة موت لا ينبغي لأحد عدم المشاركة فيها .لا جريمة ولا عقاب ولا احد يَشعرُ بالتأنيب .باتت ملابسنا كالحة, والذئاب تحوم بإصرار مقيت . مرارا سمعت أمي خلسة , وأنا أتدثر بالظلام واللحاف , تهمس للمختبئ في الدولاب ,بأنها تعبت من المراجعات لدائرة جاحدة تقدم خدماتها لعوائل العائدين بالصناديق الخشبية. ثمة ألفة قاهرة بينهما في هذا , وتواطؤ ألاّ يرد عليها .
أفضتْ له مرة: بأن أحدهم عرض عليها المساعدة , مقابل امتنان ذليل لغنيمة ممكنة .لقد تحولنا الى ضحية لسلوك أبي الحماسي. راقبتها مصعوقة من الأساليب السلسة للهيمنة . ورغم طراوة أنوثها ظلت أمي اكثر النساء استرجالا ,.
. تحدوني رغبة في الصراخ, لكن الأنباء كتمت أنفاسي وهشمت يقيني بأشياء جمة .
سأكمل المعاملة: قالت بصوت متوعد , وبنوع من الرضا الثقيل .
كانت تحت صلف الحب, تلعب لعبة صمود مكشوفة . نقطة ضعفها
ملابسها السوداء … هذا البوح الليلي يمنعني من النوم . أرزح تحت وطأة شعور حقيقي بالعار . يعتريني هاجس قاهر بأن التيار أقوى من كل مقاومة, لكنها مناسبة لا تعوض لأثبت رجولتي المبكرة .كنت أعاني من كبرياء لا ترتكز على شيء, وبدون أي مرجعية اجتماعية , ورغم هلعي هناك شيء في داخلي يمتلأ بالزهو. وحين أتعبني التفكير حقنت نفسي بالأقدام. تملكتني حماسة الرجال .أزحت الغطاء ونهضتُ بقسوة عجزتُ عن إخفائها
قلتُ بنبرة متحفزة :أنا أذهب معكِ لإكمال المعاملة .
احتضنتني وهي تغمز بروح أنثوية لاهثة لمن في الدولاب. ظلتْ تتحدثُ بالتوتر ذاته مع ضحكة هشة ….كانت روحها تندلق نحوه بقوة قبل أن يتوارى ابي خلف الجدار الخشبي .
تكرر هذا كثيرا . الصوت واضح, وأنا أنصتُ للهمس الحميم بإحساس غامض . أشعر بخشوع روحي يعتريني أمام هذه القابلية على الإصرار.
سمعتها تهمس أمام الدولاب : أنا ذاهبة حبيبي .
عندما تذهب سأطلب ممن يختبئ في الدولاب ان يخرج فلا فائدة من الاختباء. ندهتني .
قالت :أحرص على أخوتك .
كانت نفسي المنكسرة عاجزة عن الإحساس بفداحة الموقف. تأملتْ نفسها بالمرآة المعلقة على الحائط بحنق وخرجتْ .