أحمد الناجي
يحوز الأستاذ جليل الجباوي على قلم متدفق ومنساب بتلقائية النوايا الطيبة على إيقاع المحبة الطافحة من ذات صاحبه التي تفيض من القلب النابض شوقاً وحميمية، حيث يعيش بين أوساط الناس، قريباً من نبض حياتهم، ولا يعرف الانعزال عنهم، ووجد أن ممارسة العاطفة في الوفاء لمدينته وأهلها من الممكن أن يتأتى حين يظلل سطور كتاباته بفيء من أشجار المحبة الوارفة.
بدأت حكايته مع الأدب عبر غواية الكتابة التي تلبست القلم، وصار يتنقل وسط مجريات الأحداث والحوادث، بالاتساق مع الزمن المتحرك ما بين الماضي والحاضر، يسلط الضوء نحو تفصيلات أثيرة حول الذاكرة المكانية، ويلتقط من بين تضاريس مدينة الحلة المتنوعة شواهداً عن حياة البشر، يوثق على نحو من الإيجاز الوافي، لمحات من السيّر الذاتية، متناولاً نخبة من ناسها، منتقاة من مختلف الفضاءات الاجتماعية الحافلة بالأنفاس والذكريات، ممن عاشوا فوق أديم هذه الأرض الوديعة، وشربوا من ماء واهب الحياة (شط الحلة). فكتب عن قسم من الأموات (رحمهم الله)، ممن تركوا بصمتهم في الحياة، فأعاد أثرهم بعد أن صار طوياً في متاهات النسيان، ومعرضاً للزوال بحكم الزمن، واهتم بقسم آخر من الأحياء، دون أن ينظر الى الفوارق في الدين والطائفة واللون والعِرق، ولا ضير عنده إذا ما تنوعت شؤون حياتهم الاجتماعية مكانتهم مستوياتهم وهيئاتهم، أو حتى إذا ما اختلفت قيمة تحققاتهم بين المستوى الخاص، وانحصر على الذات، أو الذي تبين تأثيره واضحاً على الآخر، وانعكس على الجانب العام، فقد شكلوا بمجموعهم التجربة الإنسانية المعبرة عن حضور الهيئة الاجتماعية في التاريخ المعاصر لهذه المدينة الغائرة الى أعماق التاريخ الممتد الى أول العصور.
لقد ذهب أستاذنا الجباوي إلى أن يؤسس توجهه في التأرخة عبر هذا الضرب الكتابي على نحو من الاختلاف، لكي يضيف شيئاً مستجداً ومتمايزاً عمن سبقوه في توثيق تاريخ شخصيات مدينة الحلة، فخاض غمار هذه التجربة بجدية، وليس لأحد أن ينكر دأبه على تقليب الأوراق المطوية في الذاكرة الشخصية أو الجمعية، لاسيما حين أهتم بالكتابة حول بعض الشخصيات النسوية التي غالباً ما تغافلت الكتابات التاريخية عن تدوين دور المرأة في المجتمع، فقد التفت على وجه الانتباه الى المهمل وراح يجتهد في سبيل أن يعيده إلى المتن، ساعياً الى الحصول على أدق التفاصيل، التقاط مجريات الأحداث من خلال مقابلة بعضهم في كثير من الأحيان، متعنياً بقصدية الباحث وروحية المؤرخ الناشدة نحو التقصي في الأعماق بغية اكتساب دقة المعلومة التاريخية حول هذه الشخصية التي ترفل بنعمة الحياة، وجهاً لوجه، أو من ذوي تلك ومجايليها التي غادرتنا الى مثواها الأخير في دار الحق، وفي أحايين أخرى فتح قلبه للبعض ممن التقاهم على هدى توجهات الصدفة، وأنا من هذه الفئة، حيث حضرت نزعة الكتابة لديه أواخر سنة 2018، بتحريض من رفقتنا في مدينة بيروت عين العرب الواسعة على العالم الغربي، فراح يستجمع في أحاديثه كثيراً من الاستفهامات عن كل ما شأنه املاء دفاتره وتحبير وريقاته البيضاء، وجال متنقلاً بين منعطفات السنين يرفد هواجسه في هذا الشأن، ويطوف بقلمه المعطاء مهموماً بنزعات المؤرخ يتعقب أدق التفاصيل عن مراحل الحياة الخاصة والعامة من دون أية مقدمات، وتحقق له ما أراد عبر جلسة واحدة ممتدة.
دأب على الكتابة في أول الامر بشغف على شكل حلقات متتابعة بتقنيات العالم الافتراضي (الفيسبوك) حول بعض شخصيات المدينة بدوافع استعادة ذاكرتها، وفي الوقت ذاته لم يغب عن باله التركيز على منحى تنوير الحاضر بما هو مشرق من المآثر الإنسانية في تجارب الماضي. فبدأت ماكنة المشغل الكتابي بالدوران، تعبيراً عن اهتمامات متسقة مع الخلفية الثقافية الثرية والذاكرة المكتنزة، وبمرور الوقت تنوعت الشخصيات المكتوب عنهم، حيث سلّط الضوء على مختلف أوساط مدينة الحلة، وازدادت أعدادهم، فتوسدت المادة المنجزة فوق أختها الثانية، وصارت إضمامة حاوية على تشكيلة من الأيقونات الحلية، لاسيما بعد أن حظيت تلك الكتابات بأصداء المتلقين، فحرص على اكتمال الرؤية بضم كافة الردود الاخوانية والتعقيبات الايضاحية.
أصبحت المدونات المتكاثرة تغوي العقل وتغري العين، ولا يذبل الحلم في ظل التأملات، بل أخذ يكبر ويكبر.. ويتوسل انبثاق فكرة، ولابد لهذه الصورة أن تكتمل إذن، في أن تكون بين دفتي كتاب ورقي، وفعلاً تحول الحلم الى واقع ملموس، حين تلقفته ماكنة طباعة دار الفرات في الحلة، وصدر الكتاب الأول كأحد منشوراتها، بعنوان (شذرات من سيرة حياة شخصيات حلية)، وصار مرتكزاً لمواصلة مسار العمل الدؤوب في هذا المجال التوثيقي، ولا أحد مثل الكاتب يتحسس مذاق صدور المنجز، فتعالت الهمة مع حلاوة تحقق أول جزء من الكتاب، وتعاظمت الجهود المبذولة، وكبر الإنجاز شيئاً فشيئاً بصورة تدريجية، متنامياً بمرور الزمن الى ثلاثة أجزاء من القطع الكبير. صدر الجزء الأول سنة 2017، بعدد (407) من الصفحات، تناول فيها (175) شخصية. وجاء الثاني بعد عام 2018 بـ(448) صفحة، يضم بين دفتيه سيرة (138) شخصية. وأعقبه الثالث سنة 2021، صفحاته (484)، محتوية على (126) شخصية. وبذلك بلغ عدد الشخصيات التي تنقل قلم (أبو كريم) بين تضاريس المدينة، راصداً حياة الناس فيها بغية تدوينها نحو (439) شخصية، بضمنها (21) امرأة. وأملنا أن يظل الأستاذ الجباوي (أمد الله في عمره) مواظباً على استدامة هذا المنجز الكتابي وامتاعنا بالاستمرار على انتاج المزيد والمزيد من هذه الكشوفات.
أُحيي بحرارة صديقي الفاضل جليل الجباوي، وأشد على يديه مباركاً تحققات هذا الفعل الكتابي، المتبدية في وضع النقاط على حروف الذاكرة الحلّية، ولابد لي أن أشيد بجهوده المضنية التي فتحت لنا الأبواب والنوافذ على مخزونات وفيرة من التاريخ الاجتماعي لمدينة الحلة، متجلية بما رصده في مثابرته على تدوين السير الذاتية لعدد كبير من الشخصيات الحلية، حيث قادتنا إلى معرفة تفاصيل من تاريخ المدينة المخبوءة، وكشفت في الوقت ذاته عن الكثير من الأسرار الغائبة حول حياة أهلها الطيبين.