(1952) للروائي جميل عطية إبراهيم
شكيب كاظم
أعادت وفاة الروائي المصري المغترب في سويسرة منذ سنة 1979، ليعيش في لوزان، بعد أن سئم الحياة في مصر، أقول: أعادت وفاة الروائي جميل عطية إبراهيم، المولود في محافظة الجيزة سنة 1937، أعادت وفاته في يوم الجمعة العاشر من نيسان/ أبريل 2020 إلى ذاكرتي روايته (1952) الصادرة عن دار الهلال في ضمن سلسلة روايات الهلال ، في شهر تموز/ يوليو 1990، الموافق لشهر ذي الحجة 1410هـ، لأعود لقراءة هذه الرواية الناهلة من التاريخ المصري الحديث، إلى درجة التطابق في أحيان عدة، وهو الذي يؤكد استفادة الرواية من دراسات المؤرخين للشأن المصري الحديث، أمثال الأساتذة: أحمد حمروش، وجمال الشرقاوي، وطارق البشري، وصلاح عيسى، والدكتور رفعة السعيد، فضلا عن كتابات الصحفي المؤرخ محمد حسنين هيكل.
هذه الرواية التاريخية، ما اكتفت بنقل وقائع الحوادث كما حصلت في الحياة فقط، بل تعدت ذلك إلى ذكر بعض الشخوص بأسمائهم الحقيقية، بيد أن هذين الأمرين ما انقصا شيئا من فنية الرواية، وانسياب حوادثها، ومن ثم شغف القراء والنقاد بها، ودليلنا طبعها أكثر من طبعة، وقد اردفها جميل عطية إبراهيم بروايتين هما(أوراق 1954) و(1981) لتمسي ثلاثية روائية تتناول الحدث التموزي من جوانبه كافة، وهي التي جاءت لتصور الأشهر الأخيرة من حكم الأسرة المصرية المالكة، بدءا بحوادث حريق القاهرة، الذي طال أهم الشوارع التجارية فيها، أواخر شهر كانون الثاني/ يناير 1952، ومن ثمّ توتر الحال مع القوة البريطانية المعسكرة في مدن القناة، ولا سيما مدينة الإسماعيلية، حيث قصفت مبنى المحافظة، واستخدمت سلاحها الثقيل ضد قوات الشرطة المصرية في تلك المنطقة، التي لا يتعدى سلاحها المسدس والبندقية.
رواية تاريخ سياسي
رواية (1952) التي هي جزء من ثلاثية روائية- كما أسلفت-خطتها يراعة الروائي المصري جميل عطية إبراهيم، الذي ما أعطاه النقد الأدبي استحقاقه، جاءت لتنقل صورا من حياة الريف المصري أواخر أيام الملك فاروق بن فؤاد، وروايات الريف فضلا عن أفلامه، أراها أكثر حيوية من روايات المدينة، تصور الرواية قسوة بعض رجالات الحكم، وهذا لا شأن له بالسلطة والحكم، بل له شأن واسع بسلوك الإنسان المجبول على الشر، إذ ينفتح الفضاء الروائي لرواية (1952) على اللواء عويس باشا، الذي يمت بصلة قرابة إلى الملك، فضلا عن كونه كبير مرافقيه، عويس باشا الذي أنشأ عزبة، مزرعة قريبة من القاهرة، هو الذي أحب حياة الريف الهادئة، ينفتح الفضاء الروائي على عويس هذا آمرا بشد وثاق كرامة بن سرحان السقا إلى شجرة الجميزة، وجلده مئة جلدة، على الرغم من تشفع الناس له، واعتراضهم، ولولا عباس أبو حميدة الشخص المهاب والسياسي الشيوعي، لمات كرامة ابن السقا بين يدي عويس جلدا، فعباس هو الذي أخذ السوط من يده، ووبخه على قسوته هذه. وما آلم أبوه سرحان السقا جلد ابنه، بل تخاذل هذا الابن أمام عويس باشا، واستعطافه من غير جدوى، لا لسبب سوى أنه قرأ أشعارا للشاعر البريطاني المعروف توماس ستيرن اليوت من قصيدته ذائعة الصيت (الأرض اليباب) على مسامع جويدان، ابنة الباشا لدى تنزهها وصويحباتها قرب الأهرام، الذي عد هذا تجاوزا لا يمكن التغاضي عنه.
تنقل لنا رائعة (1952) لجميل عطية إبراهيم، وقائع من الحياة، التي تكثر فيها الآراء وتختلف، فإذا تعاطف الناس مع شخص، وهبوه محاسن غيره، وإذا كرهوه سلبوه محاسنه، فها هو المغني، المغنواتي الولد فلاح عكاشة، الذي يغادر القرية نحو الإسماعيلية، يدور بعربته يبيع الناس ومنهم جند القوة البريطانية، الفاكهة والبرتقال، يستغل السياسيون بساطته، فيهيئون قنبلة موقوتة في عربته، كي تنفجر عند مغادرة الضباط والجند مقراتهم ظهراً، فتنفجر القنبلة في الوقت المحدد، فتقتل وتجرح عدداً من الضباط والجند البريطانيين، فيتحول عكاشة المطرب، الذي لا يفقه شيئا في السياسة، والذي أحيا قبل أيام حفلا صاخبا ساهرا في قصر عويس باشا، على شرف ابنة الباشا وصويحباتها، واكل حتى بشم، وشرب من غالي الخمور، حتى ما عاد يفقه شيئا، هو البطين الشريب الشره، تحول عكاشة هذا إلى مناضل كبير وفدائي؟!وكل فئة سياسية تنسبه إليها، الإخوان المسلمون يطلقون عليه الأخ الشهيد عكاشة، ويقيمون له صلاة الغائب،. ويترحمون عليه، ويؤكدون أنه من رجالهم ومن أتباع الشيخ سلامة أبو حجازي، خطيب جامع عزبة البدرشين، والمسجون في سجن الاستئناف على ذمة حريق القاهرة.
أما الشيوعيون فيؤكدون، لقد ضرب الرفيق عكاشة المثل، ولنا منه عبرة،. ولقد كان الشهيد عكاشة مثالا وقدوة في العمل التنظيمي! لكن عباس أبو حميدة ابن عزبة عويس باشا، الذي كان يعرف حقيقة المغني عكاشة، لا يطاوعه لسانه على مشاركة الناس لغوهم، ولا يستطيع البوح بالحقيقة المرة!
قلت إن الرواية تقترب في أحيان عدة، من ذكر بعض الأسماء الحقيقية، لا بل تذكرها، الملك فاروق ورؤساء الوزارات الذين فشلوا في تأليف وزاراتهم، بسبب سوء الأحوال وتأزمها،. ولاسيما بعد استقالة وزارة النحاس باشا، أو إقالة الملك لها، إثر اشتداد الصراع بين القصر الملكي وحزب الوفد، ووزارة علي ماهر التي استقالت فجأة، وتولى أحمد نجيب الهلالي وزارة سماها وزارة التحرير والتطهير، لكنها لم تنجز تحريرا ولا تطهيرا! وما عمرت طويلا، ثم جاءت وزارة حسين سري باشا التي استقالت هي الأخرى، وأخيراً وزارة بهي الدين بركات، أربع حكومات في أقل من نصف سنة! وأضحى البلد من غير وزارة تدير شؤونه، فضلاً عن ورود أسماء من العهد الجديد، اللواء محمد نجيب، البكباشي جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر. لكنه يقترب في أماكن عديدة من الإشارة إلى أسماء معينة، مثل الطبيبة ( أوديت) كريمة أحمد باشا السيد، وهي كما أرى كريمة الدكتور أحمد لطفي السيد، الذي يلقبه المصريون ( أستاذ الجيل) وهو على الرغم من محافظته سياسياً، إلا أن كريمته كانت شيوعية الهوى، ولولا اعتنائها بتلك السيدة السويدية، يوم حريق القاهرة، التي كانت تعاني آلام الطلق، ومن ثم نقلها إلى السفارة السويدية لمواصلة الاعتناء بتلك المرأة لألقى رجال الأمن القبض عليها، بعد ما شاع عنها أنها من المساهمين في حوادث الحريق، فضلا عن نجل دولة الهلالي باشا فهو من زعماء الشيوعيين في الجامعة، فلقد ترك الأبناء دين آبائهم!
وكالعادة يتقلب الناس ويميلون مع الهوى حيث مال، فهذا حمادة أبو جبل، الذي كان يمني نفسه بصدور الأمر بتعيينه عمدة عزبة عويس باشا، وظل يتملق الباشا كي يصدر الأمر بعموديته، ما أن انقلب الحال ودالت دولة الملوك، حتى تمرد على طلبات الأميرة شويكار زوجة اللواء عويس الذي اعتقله العساكر الثائرون، وقد لمست الأميرة جويدان فضلا عن أمها هذا التغير في أخلاق الرجل وتصرفاته والجفاوة التي كان يقابلهما بها قائلة: كان الباشا على وشك تعيينه عمدة لكن حركة الجيش أفسدت مسعاه، الشدة تظهر معادن الرجال، لقد اختفى العمدة ولم يأت ليسأل عن الباشا حتى من قبيل المجاملة.
احترام الذات والمبدأ
إن رواية (1952) للروائي المصري الراحل جميل عطية إبراهيم، الذي أمضى أكثر من نصف عمره خارج بلده، والذي كان يزوره سنويا، كي لا تنقطع آصرته بالوطن الذي أحب، والذي انتهى به المطاف أواخر سنوات العمر في دور الرعاية، كما أمضاها عالم النفس السوري فاخر عاقل، تصوير دقيق للحياة المصرية إبان تلك السنة الفاصلة العاصفة 1952، منذ بداية شهر كانون الثاني/يناير وحتى حوادث كفر الدوار خريف تلك السنة، حيث أطلق جيش الثورة! النار على العمال المطالبين بمطالب مهنية، فضلا عن ضرورة عودة الجيش إلى ثكناته بعد أن أدى دوره، وترك السياسة لأهلها المدنيين، فثارت ثائرة العساكر وأطلقوا عليهم النار. وعادت الدنيا كما كانت سابقا، حتى عجب الناس من هذا الذي اعتقله أمن الملك بحجة المساهمة في حريق القاهرة، وأطلق سراحه العساكر الثوار، الذين ما عتموا أن اعتقلوه ثانية وعذبوه عذابا شديدا، وأخافوه بإطلاق الرصاص عليه.
لقد تولى اليوزباشي أنور عرفة، التحقيق مع هذا الشيوعي عباس أبو حميدة، صاحب مقولة: كلكم كفرة، وهو الذي أنقذ كرامة ابن سرحان السقا من سياط اللواء عويس باشا، ومن يجرؤ على أخذ السوط من يده، لابل وبخه، وبخ الباشا على قسوته.
لقد قبض اليوزباشي أنور عرفة، ترى أهو اليوزباشي أنور السادات؟!قبض على عشرات الباشوات السابقين، وعلى اثنين من رؤساء الوزارات السابقين، وعلى أفراد من الأسرة الحاكمة السابقة، ولم يصادفه معتقل له ثبات عباس أبو حميدة، الذي يؤكد له: يا عرفة بك إنك لن تقتلني، وأنا لن أعترف!.