يوسف عبود جويعد
للإيقاع في النص السردي الروائي، وقع مهم وتأثيراً واضحاً في عملية بناء النص،والتحامه وتوحده وانصهاره وتعالقه مع بعضه، ليغدو كتلة متصلة متناغمة منسجمة،وبه تسير العملية السردية ضمن الصوت الذي يخلفه الايقاع داخل النص، وهو شبيه الى حد بعيد بالالحان الموسيقية وتأثيراتها على النفس البشرية، ومدى إنعكاسها لتحقيق التأثير الذي يبغيه صانع الموسيقى منها، مثل الموسيقى الحالمة، أو الهادءة،أو الخيالية، أو الرومانسية، أو الصاخبة، أو العنيفة، أو تلك التي تشحن الذهن بالأفكار والذكريات،وفي رواية (موت الأم) للروائي حنون مجيد، نجد الإيقاع الهادئ الذي رافق النص، وسار مع حركة السرد الى نهايته،وحقق الإنسيابية المرجوة، وتفاعل مع الأحداث، هو أيقاع مؤثر ومتأثر وهو يشحن الذهن، ويساهم في التصاق المتلقي مع الأحداث،وجاء ذلك بسبب تراكيب والتصاق عناصر مهمة ببعضها،اللغة السردية التي إنطلقت من الذات المتأثرة بمرض الأم وتداعيات انهيار عمود من أعمدة البناء الاسري، ومدى تعلق الأسرة بها وحبها والحنو والتعاطف معها، وكذلك أسباب تردي صحة ليلى الام، وتدهور صحتها،من هنا إنطلقت تلك اللغة بإيقاع نابع من أعماق الروح هادئ شفيف حزين مؤثر، ونعرف ومن خلال هذا الايقاع تفاصيل حياة تلك الاسرة ومكان وزمان سير العملية السردية ، وممن تتكون، الأب ، الأم التي ترقد الفراش، رؤوف الابن، وآمال الابنة، حيث نعيش المكان والبيئة المحيطة به، وهو باب الشيخ وقريب من مرقد الامام الكيلاني ونطوف هناك في ارجاءه لنتعرف على معالم البيئة والحياة والسلوك والطبائع والطقوس والتقاليد المتبعه فيه، لندخل بعدها ونعيش تفاصيل مرض الام :
( شيء محزن وغريب مضى بي، بل أن غرابته لايمكن النفاذ إليها وتعريتها. لم أعرف ما برح يلم بي. إنّ ما أخذ يعتريني أفقدني رغبتي في الدراسة وفي الطعام.. البيت فقد حرارته. أمي قلّتْ أو عُدمت حركتها. نأت في أقصى غرفتها، وجعلت تمكث طويلاً فيها، شاردة الذهن مشغول عنا، هائمة في شيء لا نعرفه ولا ندركه، إنما بعيد عن رغباتي وأولاعي أنا الأشد تعلقاً بها. وغالباً ما وجدناها منهكة القوى ، يصيب حركتها وأعمالها الفتور وعدم الإكتمال، وكأن ذهنها يقول أن لا جدوى من أي شيء.) ص 36
وهكذا أثير التساؤل المهم الذي سوف يشغل المتلقي ويشحن ذهنه لمتابعة الأحداث،هل أن مرض الأم جاء محض صدفة؟. أم أن هنالك أسباب ومؤثرات وصدمة نفسية حدثت لها جعلتها طريحة الفراش، وما هي تلك الاحداث التي جعلتها تتداعى لهذا الحد،لنطوف في حياة الأسرة ونكتشف أن رؤوف الذي قل حماسه لمواصلة الدراسة، مشغول بعلاقة سرية مع أم سمير جارتهم، التي تبادله الود والمحبة، وتتحين الفرص لاحتضانه وتقبيله:
( عندما ضمتني أم سمير إليها ونحن في فرجة الباب، شعرت بترف جسدها وشممت رائحتها. أول مرة تطويني الى داخلها، وأغوص بين فخذيها، فينتأ شيء فيّ، وأتمنى ألّا اغادرها) ص 28
بينما نجد آمال منشغلة تماماً بالاهتمام بأمها، أما الأب عبد الغفور ، وهنا تكمن البؤرة الأساسية للاحداث ومركز تأثرها، حيث نكتشف أنه مع علاقة بأمرأة اخرى هي سعاد جارتهم، الذي يلتقيها قريب من محله الذي يبيع فيه أدوات أحتياطية للسيارات الالمانية، في يوم ممطر، فتعطيه مظلتها ، ورغم رفضه الا أنها تصر على أخذ المظلة، وهكذا تنشأ علاقة عاطفية بينهما، وما أن يدخل الاب وهو حامل المظلة حتى يقرع جرس الانتباه، من قبل الأم التي أحست أن هذه المظلة من فتاة وليس رجل رغم تحججه بذلك ، لأنها ملونة الوان ناعمة لاتعرفها الا المرأة، وتظل هذه المظلة وهي مركونة في أحد زوايا الغرفة نذير شؤوم، وبداية لتدهور تلك الأسرة، بعد ذلك تهدي سعاد لعبد الغفور عطر من النوع النادر والذي تظل رائحته العطرة نفاذة لايام، ويلتصق بالسرير والفراش وملابس الزوجة ليلى ، الأمر الذي أكد شكوكها وأحست بأن زوجها على علاقة بامرأة اخرى، وهو أحساس قاتل ومدمر بالنسبة لامرأة تحب زوجها،
( عجباً .. أيمكن أن يصبح العطر معادياً للنفس كهذا الذي أحسه في هذا العطر؟ الغريب أنه من النوع الذي لا يزول سريعاً، وأنه فوق هذا وذاك دخل غرفة نومنا، واستلقى على فراشنا، وتناقلناه على اجسادنا. وكما يحصل في مثل هذه المواقف التي يتغير فيها العطر، وتتبدل الملابس أو يزداد الإهتمام بهما، تشم الأنثى الزوج، رائحة الأنثى الأخرى ولو من بعد بعيد.) ص 101
وهكذا نكتشف الاسباب التي أدت بتدهور حالة الأم ومرضها، كما سوف نكتشف تأثير مرض الام على العلاقة الاسرية، حيث ينتاب البيت هدوء وحزن ووحشة، وسكون وصمت، فصوت الام أكثر الاصوات احساساً بالسعادة والفرح من قبل الاسرة وكذلك نكتشف فتور العلاقة بين الزوجين، ومحاولة الزوج ردم هذه الهوة، لكن إحساس الام بأن تلك العلاقة لازالت قائمة يقض مضجعها.وتشعر الام بأن قادم الايام ستكون أكثر سواداً ،لأنها تحس بأن نبؤتها المشؤومة ستتحقق وأن علاقة زوجها بتلك المرأة ستتعمق وتصل حد الزواج:
( تجاوزت الباب، خلفته إلى شمالها الأقرب إلى الشيخ، هل مسح الشيخ وهي تمر من جواره الكريم على فؤادها لتتردد فلا تطرق على باب بيت سعاد، بل حتى لم تلق نظرة ولو عابرة عليه؟ أي عطر يملأ جوارجها الآن، ثم أفي مقدورها أن تعود إليه تمسح بيديها على شبّاك ضريحه، ثم تمرر ذلك على صدرها وباقي جسدها لترتاح أو تشفى؟ هناك شدّت صدرها على الشباك، ومدت ذراعيها على وسعهما لتطوق بهما ما أمكنها من حلقاته الفضيةالصقيلة . هناك فقط وهي تأخذ أنفاساً عميقة أشبعت بها رئتيها، سقطت دمعتان من عينيها حسبتهما دماً، ووجدت جسدها يسترخي ونفسها تلين، وتجتلس ، من ثم، مكاناً قصياً لتنود مع النائدين.) ص 218
واستمر هذا الايقاع الهادئ الشفيف المشحون بالعناصر التي تديمه، وتطيل بقاءه مع امتداد حركة السرد،بل أنه يزداد التحاماً وتوحداً مع النص، ليضيف له هالة جمالية متصلة بوحدة الثيمة والاحداث وتأثيرها على الايقاع .فتموت الأم بعد أن يزداد عليها المرض، بسبب أحساسها الكبير بأنها فقدت سر ديمومتها وبقاءها وهو الزوج الذي تتمناه ان يكون لها وحدها.
( وقد تبعتها آمال ولحقت بهما من بعد على نداء أسرع رأفت أمي، أمي…، رأيناها تقذف العطر نحو النقطة المجهولة في الأعلى لترتد من ثم على سطح آخر ونسمع تهشمها على أرضه، ثم تعود تتلمس درجات السلم مبهورة الانفاس، يفرز جسدها عرقاً بارداً، فنحيطها برعايتنا حتى نهبط بها الارض، وهناك نرقدها على سريرها ، لتنام ، مثلما سنلمس لاحقاً على نداء جدتنا، نومتها الابدية.) ص 260 من اصدارات دار امل الجديدة للطباعة والنشر والتوزيع- سوريا- دمشق لعام