“الهيش” رواية تأخذك في رحلة ممتعة إلى أعماق الريف المصري
آية ياسر
بعض الأعمال الأدبية تأسرك كالمغناطيس لتسبر أغوارها وتلتهم صفحاتها، وتجبرك على ألاّ تنصرف عنها حتى تسدل الستار على آخر فصولها، وتودعها بشيء من الحزن عند انتهاء الرحلة الممتعة، التي تترك في نفسك أثراً طيباً وتعلق بعض شخصياتها وأحداثها بذهنك لوقتٍ طويل..
هذا ما شعرت به عند قراءة رواية “الهيش” للروائي والقاص المصري المتميز “أشرف العوضي”، والتي أخذتني في رحلة ممتعة إلى أعماق الريف المصري، لتطلعني على تفاصيل دقيقة لحياة الطبقات الأكثر فقراً في تلك البيئات، لا يعلم بشأنها قاطني المدن.
تقع الرواية، الصادرة عن دار إبداع للنشر والتوزيع، في 100 صفحة من القطع المتوسط؛ لذا يمكن تصنيفها كرواية قصيرة “نوفيلا”، على الرغم من كثرة شخصياتها وعمق موضوعاتها؛ وقد استهل الكاتب نصه بأبيات للشاعر الكبير الراحل “صلاح جاهين”، لتكون عتبة النص:
” مع إن كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مْغَمَّضين
بعد الدقايق والشهور والسنين
تلاقي ناس أشرار وناس طيبين
عجبي!!. “
استطاع الكاتب ببراعة منذ بداية روايته حتى نهايتها أن يحافظ على تماسك السرد وخلوه من الحشو والتطويل والترهل، معتمداً على أسلوب التكثيف؛ فكان مقتصداً في الوصف بقدر الحاجة.
استخدم “العوضي” لغة فصحى رصينة، تجمع بين السلاسة والجمال، واعتمد على أسلوب الراوي العليم ، الذي يحكي عن الشخصيات ولا يتدخل في الأحداث أو يحكم على الشخصيات.
تدور الحبكة الرئيسية للرواية حول فتى يعمل فخاراً، ويعاني منذ مولده ازدراء الناس له واتهامهم له بأنه ابن زنا، لكونه مجهول الأب، واتهام أهالي القرية لوالدته بالعهر حتى بعد وفاتها، وهم يدعون الفضيلة والشرف إلاّ أنهم جميعاً مدنسون في مستنقع نتن من الرذيلة والدناءة.
المكان هو قرية صغيرة في الريف المصري، اتخذها الكاتب مسرحاً لأحداث الرواية؛ أما الزمان فهو وفقاً للأحداث يرجح أنه بين حقبتي الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
اختار الكاتب “الهيش” ليكون اسماً لروايته، والهيش هو الشجرُ الكثيرُ المُلتَفُّ الذي يُتَوَارَى فيه للخَتْل والغِيلَة، ويكثر فيه الحلفاء والغاب والحشائش، وجاء اختياره لأنه يكون مسرحاً لمعظم أحداث الرواية؛ حيث يعيش فيه بطل الرواية وشيخه “الشيخ أبو السعود”، الذي يتضح لاحقاً أنه أباه الذي أخفى عنه وعن الجميع بنوته، الناجمة عن زواج عرفي، فقدت بعده الزوجة “حميدة” ورقة عقد الزواج!.
استطاع “أشرف العوضي” ببراعة أن يرسم شخصية بطل الرواية “برهان عجب جابر” الذي نشأ على كونه ابن زنا واتهام أهالي القرية لوالدته “حميدة” بالعهر، حتى معلمه
المعلم هريدي، صانع القلل والبلاليص والأباريق
، الذي علمه صناعة الفخار كان يناديه بدوما ب”الفاجر” رغم رعايته له، معاناته منذ الطفولة من مرض الصرع ومن الفقر الشديد، والاضطهاد وازدراء من حوله له القرية جميعا، بسبب أمه “حميدة” التي تعمل خادمة في دوار عمدة القرية وبيوت الميسورين، لتربيته، حتى سيطرا الغضب والحقد على نفسه وأعمى بصيرته تماماً.
ورغم مأساوية حياته إلاّ هناك رجلان كانا يحنوان عليه منذ الصغر، وهما: “المعلم هريدي” الفخار الذي علم البطل هذه المهنة وترك له بيته وتجارته.
و”الشيخ أبو السعود” الرجل الذي كان إقطاعياً من الأعيان فيما مضى، وتزوج سرًا دون علم زوجته الأولى وأولاده، من فتاة فقيرة تقدم الشاي في الموالد، ثم سرق عقد الزواج العرفي وهرب تاركاً إياها، وحيدة تقابل مصيرًا مجهولاً، وهي تحمل طفله “برهان عجب جابر” في رحمها.
وقد انقلبت حياته رأساً على عقب بعد أن ماتت أسرته، بسبب وباء الكوليرا، ولم يتبق إلا ابن له كان يعيش في تركيا، إلاّ أنه سلبه ممتلكاته.
ثم تغيرت أحوال الشيخ أبو السعود بعد تلك الكارثة، وتقرب إلى الله وعاش بعيدا عن القرية في عزلة تامة، غير أنه استمر في جبانه لسنوات عديدة وتنكر لزوجته ولابنه، ولم يعترف به وتركه لقمة سائغة لأفواه الناس وقسوة أهل القرية.
تبدأ أحداث الرواية بوفاة “حميدة” أم البطل، وتبرأ الأهالي منها ورفضهم لدفنها في مقابرهم لأنها دنس، الأمر الذي أشعل نيران الغضب والحقد في نفس بطل الرواية “برهان عجب جابر”، وجعله يصمم على الانتقام منهم جميعاً.
ويكشف لنا الكاتب عن قصة حياة “حميدة” التعيسة والبائسة؛ فقد عاشت كامرأة فقيرة يتيمة مع خال لها، استغلها رجل ثري من الأعيان يدعى “أبو السعود “، وتزوجها عرفياً وأوهما بأنه واقع في حبها ثم تخلى عنها بعدما سرق عقد الزواج، لتكتشف أنها حاملا، وتظل تبحث طويلاً عن والد طفلها وعندما تجده يتنكر لهما، فتعيش في قرية هي غريبة عن أهلها.
شخصيات الرواية جميعها آثمة غارقة في الإثم حتى أخمص قدميها، يدعي معظمهم الورع والشرف وهم ليسوا كذلك؛ فنجد أن الشيخ أبو السعود فعل فعلته النكراء وتنكر لزوجته وولده، وهناك صول المرور الذي لا يترك صلاة الجماعة بالمسجد؛ إلا أنه زنى بفتاة صغيرة هي “منيرة الدكش”، ابنة
“الصباحي الدكش” شيخ العربجية في موقف الكارو، التي
تمارس الجنس مع صبيان المعلم، وتضبط في فضيحة أخلاقية؛ فيزوجها أباها درءاً للفضيحة من أحد صبيانه “عليش جاد الله”، الذي كان خادماً أقرب إلى العبد فى بيت الصباحي، ويقبل بالزواج منها للخروج من مستنقع والفقر والتعاسة؛ إلاّ أنها
امرأة شرهة جنسياً ، تخونه مع بطل الرواية، الفتى “برهان عجب جابر” لكي يشبعها جسدياً، ويعلم “عليش” بذلك لكنه يخشاها لأنها غنية وورثت تركة والدها، وكل ما فعله هو جلد عشيقها بالركرباج ومعاملته بقسوة، منتظراً الفرصة للخلاص منها بعد أن يضع يديه على ممتلكاتها.
إلاّ أن هناك شخصية واحدة في هذا المستنقع غارقة في البراءة والطهر، هي الفتاة المراهقة “سعاد” ابنة “منيرة الدكش” و”عليش جاد الله”، الذي يدمن المخدرات ويكون بدوره زوجته مع صديقاتها وحتى مع زوجة الغفير.
وتعاني “سعاد” من ثرثرة أهالي القرية عن سمعة أمها السيئة، وتصاب بحالة نفسية سيئة؛ فتلجأ أمها إلى الدجل والشعوذة وحفلات الزار لمحاولة علاجها.
ويختار الكاتب مصيراً بائساً للفتاة البريئة “سعاد”، عندما يقرر بطل الرواية، “برهان عجب جابر”، الانتقام من “منيرة الدكش” وزوجها “عليش جاد الله” وأهالي القرية الظالمة، فيغتصب “سعاد” داخل “الهيش” بوحشية، ثم يذبحها، ويفر هارباً.
إلاّ أن إثم “برهان” يطارده فيصيبه بالهذيان والحمى، وتتكرر نوبات صرعه، ويبدو أنه يصاب بالذهان، فيتخيل أن شبح القتيلة “سعاد” يترائى له، ويهمس له بكلمات حبٍ؛ فتستدرجه وتأخذه معها ليغرق في قاع النيل، والمفارقة هي أن الكاتب جعل “الشيخ أبو السعود” يعترف في نفس الوقت على منبر الجامع بأبوته للبطل؛ إلاّ أن الاعتراف جاء بعد فوات الأوان!.