محمد زكي ابراهيم
لقد اعتدنا أن نشترط، حينما نقدم على شراء سلعة ما من الأسواق الأجنبية، أن تكون من آخر طراز. وألزمنا أنفسنا، في كل صفقة مع العالم المتقدم أن نحصل على أحدث التقنيات. لأن ذلك باعتقادنا يضيق الفجوة بيننا وبين الآخرين.
وينطبق هذا الشرط على المصانع التي يجري نصبها لدينا. إذ لا بد أن تكون بالغة التطور. وإذا ما ثبت أنها من جيل سابق، فإن ذلك يدخل لدينا في خانة الغش التجاري، أو الفساد، أو الاحتكار.
والواقع أننا نخسر الكثير بهذه الطريقة. فالمعدات القديمة، أو المستعملة، هي أفضل ما يلائمنا، لأن تشغيلها يحتاج إلى أيد عاملة كثيرة، فتسهم بذلك في تقليل البطالة. وهي رخيصة الثمن، أي أنها توفر مبالغ كبيرة للدولة.
وقد عمدت دول كثيرة إلى الاستفادة من هذه الخصائص، لتنشيط اقتصادها. فالهند مثلاً تشتري السفن القديمة شبه المستهلكة بثمن بخس. وتقوم بترميمها وإعادتها للحياة، أو استخدامها كقطع غيار. وتوظف في هذه العملية آلاف العمال والفنيين، وتجني منها واردات كبيرة.
وقد عمد العراق في وقت قريب إلى السماح باستيراد السيارات المتضررة أو المستعملة، وطرحها في الأسواق بأسعار متهاودة، لتوفير فرص عمل كثيرة للحرفيين والتجار. وهناك دول كثيرة تسلك ذات السلوك منذ زمن طويل، دون أن تجد في ذلك بأساً. فالرفاهية التي نبحث عنها يجب أن لا تكون مجرد مظاهرة فارغة، تزج بنا دون أن نعلم بحمى الاستهلاك.
مثل هذا الانطباع ينسحب على الثقافة أيضاً. فليس المطلوب الحصول على آخر ما أنتجه العقل الغربي من نظريات، بدعوى الحداثة، دون التحقق من ملائمتها للبيئة المحلية والعقل العربي!
إن المفاهيم الجديدة التي يجرى تسويقها على الملأ في نصف الكرة الغربي، إنما تعبر عن صيرورة اجتماعية خاصة بذلك الجزء من العالم. وقد ظهر بعضها نتيجة التمرد على الواقع، أو البحث عن صيغ جديدة للحياة. وكانت نواة ذلك في منتصف الستينات من القرن الماضي، حينما اندلعت ثورة الشباب ضد التقاليد، والقيم الاجتماعية. وكانت أهم إنجازاتها تفكيك الأسرة، واللهاث وراء اللذة.
وفي أواخر القرن العشرين بدأ الحديث عن نهاية التأريخ، بعد انهيار المنظومة الشرقية. ومعنى ذلك ببساطة إسقاط الأفكار التي شكلت مصدر قوة للبلدان الصغيرة، مثل الخصوصيات القومية والمحلية. وتأسيساً على ذلك جرى إغراق العالم “القديم” بالكثير من العدمية والفوضى. وأولها إلغاء المرجعيات، وإزالة الحدود، ونسيان التاريخ.. وحينما يخضع الإنسان لمثل هذه الاعتبارات فإنه ينفي ذاته، ويتحول إلى آلة محايدة، لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.
مهمة الثقافة أن تدرك أن مؤشر الرفاهية الحقيقية لا يأتي عبر محو العقل المحلي وإحلال الغرائز المنفلتة مكانه، سواء كانت اقتصادية أو حسية. ولا يتحقق بطمس الشخصية الوطنية التي تمثل موطن القوة لدى الشعوب، بل في بناء ثقافة وطنية تتطور بمحض إرادتها على امتداد الزمن.