الكشف عن مقالة ساخرة بقلم أوّل رئيس عراقيّ

نشرها عبد السلام عارف قبل 6 سنوات من مشاركته بإسقاط الملكيّة

خلال تحرّياتي وتنقيبي في ملفّات الصحف وسلاسل أعداد المجلّات العراقيّة القديمة المحفوظة في المكتبات الكبرى، لاستكمال ما يلزم لإنجاز بعض مشاريع كتبي وأبحاثي الأدبيّة من إحاطة وتوثيق وكشف، وقعت بين يدي، بمحض المصادفة، مجلّة عسكريّة محدودة التداول صدرت سنة 1952، تضمَ مقالةً ساخرةً تبيّن لي أنّ كاتبها هو الرئيس الأسبق عبد السلام عارف، أوّل رئيس للجمهوريّة العراقيّة (1963-1966)، والمنفّذ الميدانيّ لحركة الجيش الجريئة التي نجحت بإسقاط الحكم الملكيّ في العراق فجر 14 تموز 1958، حين كان ضابطاً برتبة عقيد ركن، وهي الحركة التي استعاد العراقيون، أمس الثلاثاء، ذكراها الثانية والستين، والجدل يتزايد في أوساط نخبهم بشأن توصيفها، وما نتج عن انغمار الجيش بالشأن السياسيّ ووصوله للحكم، خلافاً لنصوص الدساتير العراقيّة المتعاقبة، من مآلات في حاضر البلاد. ويبدو أنّ مقالة عارف الساخرة ظلّت طيّ هذه المجلّة، غير المتداولة خارج إطار نخبة ضيقة من الأوساط العسكريّة، طوال 68 عاماً من دون أن يتنبّه لها المعنيّون بالتاريخ المعاصر وسير رؤساء العراق السابقين، أو دارسو الصحافة العراقيّة.

حسين محمّد عجيل

مدوّنة مبكّرة ومجهولة
كثيراً ما دفعني فضولي المعرفيّ وشغفي بتاريخ بلادنا القريب، الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ، للإطّلاع السريع على ما في بطون بعض ما يقع في يدي- خلال هذه التنقيبات والتحرّيات- من دوريّات قديمة، فأنا أرى أنّ تاريخنا القريب ما زال غير مبحوثٍ ولا محروثٍ حتّى الآن على نحو موضوعيّ وشامل وجادّ، بسبب تراكمٍ كثيفٍ من التقاطعات السياسيّة والنفي المتبادل بين الأنظمة المتعاقبة التي حكمت العراق، ولا سيما في العقود الستة الأخيرة، واتّباع سياسة الحجر على مصادره الأوليّة والثانويّة، وتغييب الوثائق الورقيّة والأرشيفات المرئيّة والسمعيّة، واليوميّات، والمذكّرات، والصور، التي تسلّط شيئاً من الضوء على عتمة هذا التاريخ، لاستقصاء بعض ما خفي منه، وكثيراً ما أضاف لي هذا الفضول المعرفيّ غير المبرمج معلومةً ذات فائدة في هذا الحقل أو ذاك، وربّما خرجتُ منه أحياناً بأفكار وموضوعات لم تكن في الحسبان، كهذه المادّة.
في واحدة من هذه المرّات، جاءني مناولُ الكتب خطأً بالعدد السابع من مجلّة عراقيّة اسمها (الركن) صادر سنة 1952، وهي مجلّة ناطقة باسم كليّة الأركان العراقيّة في العهد الملكيّ، فقرّرت تصفّحه ولم أردّه إليه، ولفت انتباهي في العدد رسمٌ كاريكاتيريٌّ أُدرج في ختام إحدى مقالاتها وبحوثها، يصوّر ضابطاً بديناً يفترض أنّه رئيس للجنة مناقشة، وخلفه حمّالان يرتديان الدشداشة وينوءان بحمل عشرات المصادر الضخمة المتساقط بعضها من أيديهما، فعدتُ لأوّل هذه المادّة لأطّلع على طبيعتها، فوجدتُها مقالةً بعنوان «الأطروحة الأخيرة»، وحين أخذتُ أقرأ فيها، راعني أنّها هزليّة وتتناول بسخرية لاذعة، بل لاذعة جدّاً، حالة ضابط عشيّة مناقشته أطروحة تخرّجه العسكريّة في كليّة الأركان، ثمّ ما دار في يوم المناقشة وبعد انتهائها من مفارقات تبعث على الاستغراق في الضحك، وحين عدتُ لغلاف المجلّة مجدّداً لأتأكّد ممّا قرأته في ترويستها، كان التعريف واضحاً: «مجلّة سنويّة تصدرها كليّة الأركان».
وأقول «راعني»؛ لأنّني لم أتوقّع أن أجد مقالةً بهذا الأسلوب في مجلّةٍ رصينةٍ تصدر عن مؤسّسة عسكريّة بمستوى كليّة الأركان، وكاتبها ضابط برتبة مقدّم ركن، وضحيّة هزله ضابط آخر غير محدّد الاسم برتبة يفترض ألّا تقلّ بكلّ الأحوال عن رائد ركن، وهو بالتأكيد شخصيّة زميل سابق للكاتب، فضلا عن عدّة ضبّاط أرفع رتبةً في لجنة المناقشة.. كلّ هذه المفارقات كانت بمثابة أمر غريب، وازداد وقع الغرابة حين تنبّهت لاسم كاتب المقالة، إنّه المقدّم الركن عبد السلام عارف.. يا لها من مفاجأة مدهشة! فها أنا ذا أمام مدوّنة مبكّرة وغير معروفة ولا متداولة لهذه الشخصيّة العسكريّة والسياسيّة الجدليّة، التي أسهمت بتغيير مسار تاريخ العراق الحديث، فقد قدّر لهذا الضابط الكاتب بعد ست سنوات من نشر مقالته هذه، أن يقود ميدانيّاً وعلى مسؤوليّته الشخصيّة مغامرة تنفيذ خطّة «حركة الضبّاط الأحرار» لإنهاء الحكم الملكيّ وإعلان الجمهوريّة، وبعد هذه المغامرة بخمس سنوات أخرى أصبح- على نحو دراماتيكيّ- أوّل مَن شغل منصب رئيس الجمهوريّة العراقيّة على نحو رسميّ وحقيقيّ في تاريخ البلاد، حتّى مقتله مساء يوم 13 نيسان 1966، في حادث سقوط مروحيّة غامض في جنوبيّ العراق، بعد أن كان هذا الموقع الرئاسيّ يُدار على نحو بروتوكوليّ وفخريّ منذ سنة 1958 من تشكيل محدود الصلاحيّات يُعرف بمجلس السيادة، مؤلّف من ثلاث شخصيّات، من بينهم رئيس المجلس الفريق محمّد نجيب الربيعي، فيما كانت السلطة الحقيقيّة في الأعوام الخمسة التي أعقبت العهد الملكيّ بيد رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم.

الأطروحة الأخيرة
هيْكَلَ المقدّمُ الركنُ عبد السلام عارف مقالتَه «الأطروحة الأخيرة»، التي شغلت الصفحات الأربع: 106-109 من عدد المجلّة، بشيءٍ من الدهاء، وعلى نحو تبدو فيه وكأنّها مادّة علميّة بحتة، فقد استهلّها بهذا العنوان الثانويّ (تمهيد)، المكوّن من ثمانية أسطر، تليه فقرتان متتابعتان مسبوقتان بالرقمين (1 و2)، الأولى بعنوان (ميزاتها)، فيها أربع نقاط مرتبّة بحسب الحروف الأبجديّة، والثانية بعنوان (على الهامش) وهي أكبر فقرة في المقالة كلّها وشغلت نحو نصف حجمها، ويسرد فيها متفكّهاً ساخراً قصّة زميله الضابط البليد، على ما يبدو، الذي كان يحاول تهيّئة نفسه ليلاً لمناقشة أطروحته في صبيحة اليوم التالي، والطريقة التي عرض فيها الأطروحة أمام لجنة المناقشة، وسيتضح من خلال بضع إشارات في المقالة، أنّ عبد السلام عارف كان ينتظر بوجلٍ هو الآخر نتيجة مناقشة أطروحته العسكريّة في كليّة الأركان.
على المستوى البصريّ، لا يفضح محتوى المقالة الهزليّ سوى رسمة الكاريكاتير في آخرها، وهي ما جذبت انتباهي لها كما ذكرت. لكنّ القارئ حالما يشرع في قراءة التمهيد سيلاحظ أنّ الكاتب لا يريد أن يتأخّر في كشف طبيعة مقالته، فهو يفعل ذلك من الجملة الأولى التي استخدم فيها مفردات غير مألوفة بمقالة عسكريّة، بل أقرب للعاميّة، مثل «هرج مرج»، ثمّ سرعان ما يتولّى كشف طرائق تدليس بعض الضبّاط الدارسين بالكليّة في الاستيلاء على محتوى المصادر السابقة، وضخامة ما يبددونه من ورق في كتابة الأطاريح، وضرب الكاتب بنفسه مثلاً على هذا التبديد.. وجاءت عبارات التمهيد كالآتي: «لأطروحات كليّة الأركان هرج ومرج واشتغال دائب ومصادر متنوّعة وتوقيتات مختلفة، ويتصبّب عرَقُ التلميذ فيها مرّات ومرّات حتّى وإن كان ذلك في شهري كانون الثاني وشباط، بل إنّها تجلب عليه الويل والثبور، فيضطرّ إلى أن يجادل هذا ويسرق من ذاك مع بعض التحوير، وإن ضاق عليه الأمر شمّرَ عن ساعده ولم يخف رجاءك به؛ طبق الأصل..! ولاتسأل عن القرطاسيّة المصروفة في ذلك الشأن، بل إنّي معتقدٌ- واعتقادي جازم- أنّ سبب غلاء القرطاسيّة هم تلامذة كليّة الأركان، و«عند جهينة الخبر اليقين». وإليك الآن أيّها القارئ اللبيب مشهد إحدى أطروحات الفصل الأخير في الكليّة:».
وبالانتقال إلى فقرة (ميزاتها)، يقول في النقطة (ب) عن (التوقيت): «وهنا الطّامة الكبرى، فيجب أن يستغرق إلقاء الأطروحة ضمن الوقت المحدّد، وقد حدّدته الهيئةُ المعلّمةُ «بالقيط والقيراط»، فإن حِدْتَ قيدَ شعرةٍ لتلقيتَ من الهيئة المعلّمة، أدامها الله، أنواعَ الكتابات والتعليقات التي لا يعرفها إلّا الله والراسخون في العلم، ومن التلاميذ أنواعَ الهمسات والغمزات والإشارات».
وفي النقطة (ج) عن (الإلقاء)، يواصل تهكّمه الطريف بالإشارة إلى أشهر خطباء العرب في الجاهليّة، فيقول: «فلو أنّ قُسّ بن ساعِدة رحمه الله بين التلاميذ الأبرار، لتلقّى من النصح والتعليق والإرشاد ما أغناه عن ذكر التاريخ له، وترديده على مرّ الأيّام».
وفي النقطة الأخيرة (د) من هذه الفقرة يتحدّث عن (الوضع) قائلاً: «هيهاتِ لمن يظفر بالوضع الصحيح في كليّة الأركان، فهذا يمسك القلم، وذاك يُخرج المنديل، والآخر يناجي السبّورة، والرابع يستجير بالسقف، وقس على ذلك من الأوضاع غير المستحبّة التي تثير العواصف وتنزل الأمطار على المحروس من التلاميذ».

على الهامش
وفي الفقرة الرئيسيّة المعنونة «على الهامش»، التي تستغرق نحو نصف المقالة، يصل فيها تصوير الكاتب الكوميدي إلى أقصاه، عند تناوله شخصيّة الضابط القلِق من المناقشة المنتظرة غداً، فهو يستهلّها على هذا النحو المطعّم بشيء من السجع: «بينما نحن في الفصل الأخير، والنتيجة المؤلمة على قاب قوسين أو أدنى وأصبحنا من الخَوَر والذهول بحيث يستفزّنا العصفور، جاءني صاحبي الخفيف الدم والروح، ولديه من الأخبار والنشرات، ما يغني عن رويتر والراديوات، قائلاً: «غداً أُلقي أطروحتي، وأريد أن ألقيها عليك الآن وأن تقوم بمثابة التلاميذ والهيئةِ المعلّمة، وأجبني بصراحة كي لا أتورّط في مشكلة..!». قال ذلك وأخذ يتمشدق ويتبجّح ويسير الخُيَلاء، في غرفتي الصغيرة التي لا تسع حجمه- والعياذ بالله- الأمر الذي اضطرّني إلى فتح الأبواب والشبابيك كي يتمكّن من تحريك يديه ورجليه، واستعنّا بالجدار كسبّورة صغيرة بالنسبة إليه..».
وبعد هذا الوصف الكوميديّ الساخر لزميله وهو يلقي عليه أطروحته، ذكر أنّه «بَيَّتَ له (خيراً)»، وأردف مستكملاً سرده للكيفيّة التي ورّطه بها: «فانتهى خطابه ويا ليتني لم أسمع ما قال، وطلب التعليق فما كان منّي إلّا أن أبادره بالتصفيق والتهليل الذي جلب إليّ باقي التلاميذ، الذين أسعدوا بعدم سماعهم الخطاب، إلّا أنّه ألّح في طلب التعليق، فقلت له: «يا أخي! أنت مزمعٌ على الفوز بالأوليّة، وإنّ خطابك يستوجب الصياح لأنّه يستنجد الهمم والشِيَم، ويجب أن تأخذك العصبيّة بحيث تهزم كلَّ مَن يسمعك في القاعة»، فأيّدني بهذا الصدد جميع الزبانية الحاضرين (لكسران الرقبة)». ثمّ يواصل سرده الطريف فيقول: «وطلب المزعوم أن أسمع خطابه ثانيةً، فذُهلتُ من هول المصاب، وبعد التي واللتيّا، وشربه «قوري الشاي»، وقضائه على باقي التمر والجوز، احتفظنا بقواعدنا سالمين».
وينتقل الكاتب بعد ذلك مباشرةً إلى جلسة مناقشة الأطروحة، وهنا يصل الفاصل الهزليّ إلى ذروته حين يقول مشبّهاً زميله بشخصيّة أدّاها فنّان مصريّ مسرحيّ وسينمائيّ كان مشهوراً آنذاك، هو علي خليل سالم، المعروف بعلي الكسّار (1887-1957): «وجاء اليوم الثاني، وامتطى صاحبي صهوةَ منصّة الخطابة، فتذكّرتُ حينذاك «رواية علي الكسّار». وكنتَ لا ترى سبّورة ولا قاعة فيصل، ففي كلّ لحظة تخاف أن تتوجّه إليك إحدى الإشارات من يديه الكريمتين، فينفصل رأسُك عن جسدك بإذن الله، أو أن تتوجّه إليك إحدى الزفرات أو الحسرات فتصيبك «زوبعة التورنادو»، وجائزتك الزكام حتماً».
ولكي يستكمل وصف أطراف المشهد من زواياه المختلفة، يضيف: «وأمّا الهيئة المعلّمة فقد غاصوا في مقاعدهم، وعَيَتْ أيديهم، ونفذَ [الصواب: نفدَ] القلم والقرطاس من التعليقات»، ثمّ ينتقل بعدسته المصوّرة إلى الجمهور فيقول: «وأمّا نحن التلاميذ، فبالرغم من هذا المشهد الكريم، فإنّ شيطان (الرَحْلَة) قائم بواجباته خير قيام، إذ كنّا خير عونٍ لتوريط المحاضر في زيادة صراخه، وإكثار الإشارات وما يجلب الشرّ لمحروسنا الظريف، بعد أن دكّ الأرض دكّاً، وأنزل بالمنصّة أنواع الذلّ والهوان، وأمّا الطبلة الخارجيّة لآذاننا فقد عُزلت عنّا، وكان أحبّ إلينا الصممُ من أيّ شيءٍ آخر».
ولا يكون خلاص الجميع من ورطتهم بهذا المحاضر، إلّا بحادثة مضحكة، يقول الكاتب: «وبوقوع السبّورة وإغماء أحد التلاميذ، أُنقذنا من الأطروحة العظيمة، وانتهت على الأصول المعروفة بالتصفيق الخفيّ للتلاميذ (بالطريقة المعروفة) وحَبْك تعليقات الهيئة المعلّمة، فكانت طبقاً للمثل المعروف «غَسْل ولِبِس»».
والمشهد الأخير في سرد الكاتب، تناول محاولة إقناع المحاضر بأنّ نجاحه في إلقائه كان باهراً، بعد أن أصبح موضع تندّر زملائه، وذكر أنّهم قالوا له: «إنّي كنتُ السبب الرئيسيّ في توريطه، ولكنّي سرعان ما شعرتُ بغايتهم، وعملهم المكسوف[لعلّها: المكشوف]، فتأبطّتُ شرّاً بذراع صاحبي المحروس، وقلت له إنّه حسدٌ من إخواننا، ولن يبلغوا شأو ما بلغتَ به من سموّ الخطابة والبلاغة «أبعد اللهُ السامعين عنها..!». وهكذا أُنقذتُ من الورطة الجديدة، ودفع اللهُ ما كان أعظم».
ومن الواضح هنا أنّ تقييم اللجنّة وضَعَ هذه الأطروحة في آخر ترتيب الأطروحات المقدّمة للدورة تلك، وهو ما ضمّنه كاتبها بذكاء في عنوان مقالته من دون أن يشير إليه صراحةً، فهي «الأطروحة الأخيرة» واقعاً في ترتيبها. ويختتم الكاتب مقالته، بجملة قصيرة كاشفة عن أنّ هذه القصّة التي سردها هي جزء من ذكرياته الشخصيّة في تلك الكليّة، إذ قال متحسّراً: «وما أكثر ذكرياتك يا كليّة الأركان..!».

مقالة كاشفة
تذكر بعض المصادر التي اهتمت بتوثيق حياة الرئيس عارف، أنّه ألّف عدداً من الكرّاسات والمقالات المتخصّصة المنشورة في المجلة العسكريّة، أهمّها كرّاسة التدريب العسكريّ «حرب الإغمار»، التي بقيت تُدَرَّس في الكليّة العسكريّة الحربيّة العراقيّة لزمن غير قصير، كما تذكر المصادر أنّ عبد السلام عارف كان معلّماً في الكليّة العسكريّة لتدريب طلّابها سنوات عدّة، وأنّه في سنة 1951 التحق بدورة القطعات العسكريّة البريطانيّة في دسلدورف بألمانيا الغربيّة للتدريب، وبقي فيها بصفة ضابط ارتباط ومعلّم أقدم للضبّاط المتدربين العراقيّين حتّى سنة 1956. وفي ضوء هذه المعلومة الأخيرة، يتّضح أنّه كتب هذه المقالة ونُشرت وهو مقيم في ألمانيا، ولعلّ غربته الطويلة هناك في دسلدورف، وانقطاعه عن محيطه الاجتماعيّ المعتاد، جعله يستعيد ذكرياته هذه ويقرّر تدوينها ونشرها، وربّما يسهم تعريفي بهذا الجانب من حياة الرئيس عارف، بالكشف عن مقالات مماثلة في بطون مجلّاتنا وصحفنا القديمة، وربّما قد تكشف عن كونه مقاليّاً ساخراً لم ينتبه له أحدٌ من المعنيّين بدراسة سيرته.
وتأتي هذه المقالة المجهولة- التي لم أجد لها، في حدود اطلاعي، ذكراً لدى أيّ باحث مختصّ، ولا حتّى مجرّد إشارة عابرة في أيّ مصدر- لتشير إلى الجذر البعيد الموثّق لطبيعة تكوين شخصيّة عارف، وتثبت أنّ خصال المزاح والظرافة والروح الفكهة الساخرة، هي جزء أصيل في هذه الشخصيّة، حتّى أنّ صرامة المؤسّسة العسكريّة وما تفرضه من قيود هائلة لم تغيّر شيئاً منها، بل لعلّها كانت وسيلة لتخفيف جفاف يوميّاتها وقساوتها، فظلّت مستحكمةً فيه، تبحث عن أيّة فرصة مناسبة للظهور، ولذلك لم تمنعه البروتوكولات والمراسيم المعتادة لذوي المناصب الحكوميّة العليا، فيما بعد، من سرد الطرائف والنكات في بعض خطبه المرتجلة وأحاديثه، لا سيما في الشهرين والنصف الأولى من تسلّم الجيش مقاليد السلطة، قبل اتساع تناقضاته وخلافاته مع رفيقه القديم وخصمه اللدود فيما بعد؛ الزعيم الركن [رتبة عسكريّة= العميد الركن حاليّاً] عبد الكريم قاسم رئيس تنظيم الضبّاط الأحرار في العراق، وأوّل رئيس وزراء في العهد الجمهوريّ (1958-1963)، وربّما جلبت هذه الخصال لدى عارف انتباه المراقبين إليها بشدّة وتركيز، عند مقارنتهم إيّاها بطباع قاسم المعروف بهدوئه وميله للتكتّم والانضباط السلوكيّ واللفظيّ، مع تواضعه وبساطة تعامله هو الآخر مع مرؤوسيه وعامّة الناس، وربّما أسهم خصوم العقيد ومناوئوه ومنافسوه السياسيّون في تضخيمها، أو الإضافة عليها، وربّما اختلقوا بعضها نكايةً به، أو اختلقها ظرفاء ومتفكّهون لتكون حديث الناس في المقاهي والمجالس، هذا كلّه ممكن، لكنّ المؤكّد أنّ للرجل حظّاً غير قليل ممّا روي عنه من مواقف لا يزال بعض من العراقيّين المعمّرين يتناقلون نماذج منها شهدوها بأنفسهم أو سمعوا بها.
لعلّ عارفاً بذل جهداً ما لإقناع القائمين على المجلّة بالموافقة على تمريرها، لما فيها من نقد لاذع للمؤسّسة من داخلها. فهل كان هناك غرض آخر لعارف من نشرها، يضاف إلى رغبته المعروفة بإظهار نزعته الساخرة والتنفيس عنها؟ ذلك ممكن، فقد يكون هدف نشرها إبعاده عن دائرة الشبهات، وإخفاء تحركّات سرّيّة كان مكلّفاً بها، ضمن خلايا الضبّاط الطامحين بتغيير نظام الحكم في انقلاب عسكريّ، التي نشطت بعد نجاح «تنظيم الضبّاط الأحرار» في مصر بإسقاط الملكيّة في السنة نفسها التي نُشرت فيها المقالة.
وإذا لم يكن الاحتمال الأخير راجحاً، فربّما تقدّم المقالةُ نوعاً من التفسير للجرأة التي يمتلكها عارف بحيث ينشر مثل هذه الموضوع المثير في سخريّته بمجلّة عسكريّة رصينة تصدر مرّة واحدة في كلّ عام، فهي تعطي انطباعاً غير مفيد لسيرة ضابط لا يتسم بالجدّيّة الكافية، وهي مسألة ذات أثر في الحياة العسكريّة، خصوصاً لدى الضبّاط الذين يبحثون عن إضفاء سمات من المهابة والوقار والرصانة على صورتهم الشخصيّة في أذهان الأقران من الضبّاط فضلاً عن الجنود، وهي جرأة تحوّلت بعد ست سنين من تاريخ نشر المقالة إلى جسارة خطيرة أو نمط من الانتحار، حين غامر عارف بمهمّة قيادة فوجه الثالث التابع للّواء 20، الذي نفّذ حركة الجيش الناجحة في الوصول إلى الحكم في فجر مثل هذا اليوم من سنة 1958، أثناء مرور الفوج ولوائه ببغداد في ليلة 13 تموز متوجّهاً بمهمّة إلى الأردن، متحمّلاً كلّ نتائج الفشل، وهي حياته وحياة مَن معه، لكنّه تمكّن من تنفيذ الخطّة بنجاح ساحق، ووزّع سراياه الثلاثة، وباقي قوات أفواج اللواء بعد أن تمكّن من قيادته، والقوات الداعمة للحراك ببغداد، للسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون وقصر الرحاب ومقر رئاسة الحكومة وأبرز المواقع الحسّاسة والمهمّة في العاصمة، منهياً في بضع ساعات أربعة عقود من الحقبة الملكيّة في العراق، ومعلناً بصوته البيان رقم (1) وبيانات أخرى تالية، في يوم أصبح فارقاً بين زمانين بتاريخ العراق الحديث.
hussein.ajeel2@gmail.com

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة