ذكريات عن الشارع وأشياءه

فوزي عبد الرحيم السعداوي

-8-

لم يوفر شارع الرشيد فرصة الاطلاع على الكتاب الذي غير حياتي فقط لكن الشارع وفر لي فرصة الاطلاع ميدانيا على نماذج من الحياة لا أعرفها وبعيدة عن بيئتي برغم سكني في باب الأغا لايبعد سوى بضعة مئات من الأمتار حيث هناك كنت أعيش في عالم آخر مختلف سوف نتعامل معه لاحقا، ولقد رأيت الكثير من الشخوص السياسية والاجتماعية المهمة في وقتها في العهدين الملكي الذي ادركت أواخره والعهد

الجمهوري الأول، رايت الملك فيصل الثاني والأمير عبد الاله ونوري السعيد والملك سعود بن عبد العزيز ملك السعودية فى زيارة له للعراق في العام ١٩٥٧، بالطبع شأن معظم سكان بغداد شاهدت الزعيم عبد الكريم قاسم كذا مرة في بعضها كنت قريبا جدا منه وهو ما ذكرته سابقا، كما اني وبسبب تنوع نشاطات المكتبة (كتب، مجلات، صحف، طوابع مالية، سكائر اجنبية، بطاقات اليانصيب التي تصدرها وزارتي المالية والصحة لأغراض خيرية والتي استقطبت اهتمام فنانين امثال ناظم الغزالي ويوسف العاني أو مسؤولين مثل أحمد محمد يحيى وزير داخلية عبد الكريم قاسم و وصفي طاهر اللذان كانا من زبائننا

لكن يبقى أهم ماكنت شاهدا عليه في شارع الرشيد هو يوم ١٤ تموز ٥٨ وما تلاه من أيام تاريخية لاتنسى وهو ماسافصله برغم اني اصدرته سابقا في منشور مطول لكن الآن سأتطرق له في سياق آخر وهو دور شارع الرشيد.

-9-

ظللت أمارس طقوس المحبة لشارع الرشيد حتى بعد ان غادرته بسبب الانشغال بالدراسة، فكنت مع بعض الزملاء نقوم يوميا وبعد انتهاء دوام الكلية بالذهاب لمقهى ام كلثوم للاستماع إلى كلاسيكياتها، في الغالب كنت أقوم بذلك بمعية الصديق عبد الصاحب (ابو نور).

كان المقهى يدار من قبل رجل في الخمسينات من عمره آنذاك اسمه أبو عباس يقوم بتقديم الشاي والحامض، في الوقت نفسه كان خبيرا في مايتعلق بأم كلثوم ويشرف على طلبات الزبائن من الأغاني التي يحفظها عن ظهر قلب وفي أحد الأيام شغل أبو عباس المسجل فبدأت مقدمة موسيقية طويلة حاولنا خلالها معرفة الأغنية فلم نفلح فتوجه عبد الصاحب إلى أبو عباس طالبا مساعدته فبدا عليه الانزعاج من ان يكون بين زبائنه هواة امثالنا فأجاب بغضب “مافد يوم أحد خلاك ملطوع بالشمس وما اجه”، لم نفهم المقصود فصرخ أبو عباس أنا بانتظارك، وهو كان اسم الأغنية، طريفة أخرى حول شخص كان يرتاد المقهى دائما واحيانا سكرانا، طلب من أبو عباس أغنية الحلم الذي استجاب طبعا وعندما وصلت أم كلثوم لمقطع يقول سكون وأيه حيكون صرخ صاحبنا موجوعا وايه حيكون شيريد يصير مع كلمة كفر قوية اتبعها بصيحة على أبو عباس جايات الكهوة كلها واصلة ودفع الحساب فعلا وانصرف.

-10-

في ساعة مبكرة من صباح الاثنين ١٤ تموز ١٩٥٨ كنت كباقي الأيام نائما في السطح كعادة الناس في بغداد هربا من الحر الذي لم تكن توجد وسائل تقنية لمواجهته أو ان هذه الوسائل محدودة ومكلفة تلك الأيام سمعت صوتا عاليا يأتي من الراديو الرابض في الطابق الأسفل من الدار، لم يك ذلك امرا طبيعيا في ساعة كهذه سيما وان من يستخدم الراديو وهو الوالد كان مسافرا في سفرة سياحية إلى إيران، لم أميز ما سمعته من الراديو لكن حساسيتي تجاه الأخبار جعلتني أنزل بسرعة لأفهم ما يجري، فتفاجأت بوجود شريك والدي أبو يوسف وهو يحمل رزمة في يديه ويشرح لأمي ما يجري وماهي اجراءاته حيث كان ينوي العودة إلى أهله في الفرات الأوسط.

سلم أبو يوسف بعض متعلقات المحل الثمينة وغادر حيث عرفنا لاحقا انه وصل مشيا إلى البياع حيث كانت هناك سيارات تنقل المسافرين إلى محافظات الفرات الأوسط، يقول أبو يوسف انه أثناء مسيرته باتجاه البياع كان يجب ان يمر على قصر الرحاب الواقع على الطريق العام فدفعه فضوله للاقتراب من القصر حيث شاهد جثة الأمير عبد الاله وكانت لاتزال طازجة وشخص أعرفه من ولايتنه يعمل “سري” (تسمية رجل الأمن) وهو يحمل لوحا خشبيا يضرب به الجثة صارخا هذا مصير الخونة!! يضيف أبو يوسف ان هذا السري كان مكلفا بمراقبة والدك ولطالما أزعجنا بمضايقاته.

بعد ان نزلت من السطح وفهمت مايجري وبعد خروج أبو يوسف وخروج أخوي الكبيرين للالتحاق بالجمهور الهائل الذي غص بهم شارع الرشيد، تجرأت أنا أيضا والتحقت بالتظاهرات والمسيرات العفوية إذ لم يعد هناك من يمنعني من الخروج سيما وان أمي انشغلت أيضا بالحدث، دخلت بين الجموع التي كانت تتنقل على غير هدى بين مكان وآخر وتعود إليه، كان هناك فرح عارم لم أشهد مثله لكن لم تك هناك هتافات أو شعارات، ظللت أتنقل بين المصارف وساحة الأمين (الرصافي لاحقا) في حين عبر أخوي الكبيرين الجسر العتيق (الشهداء) باتجاه السفارة البريطانية التي كانت تحترق حيث رويا مشاهدتهما لتعليق الأمير عبد الاله من على شرفة بناية مازالت قائمة تبعد بضعة مئات من الأمتار عن دائرة التقاعد الحالية، ظللت أهيم وسط الجموع ثم بين الفينة والأخرى أعود للبيت ثم أرجع للشارع.

-11-

عند منتصف الظهيرة في ذلك اليوم التموزي القائظ كان الاسفلت يذوب تحت تأثير الحر في تلك اللحظات سمعت جلبة وضوضاء لجمهور متجمع حول شيء ما، كان ذلك قرب سوق الصفافير وقد أستغليت حجمي الصغير لأخترق الحشود واستكشف ما يجري واذ انا أرى الناس متجمعين حول جثة لرجل عاري بشكل كامل ذو جثة سمينة نسبيا وكان مربوطا بحبل ليسهل سحله، وبسبب الحر الشديد كان جزء من شحمة يذوب  مختلطا بالاسفلت، أحد المتحلقين حول الجثة كان يحمل عصا أدخلها بدبر الضحية مع صيحة “كواد فاضل الجمالي” منين لك هل شحم كله من الشعب.

فاضل الجمالي هو وزير خارجية النظام الملكي الذي لم يك صاحب الجثة، التي تبين لاحقا انها تعود لأحد أفراد وفد من البرلمان الاتحادي الهاشمي الذي صادف انه كان في زيارة للعراق (كان العراق والأردن أعلنا عن اتحادهما وشكلا لذلك برلمانا اتحاديا من الأردنيين والعراقيين)، قتل أعضاء الوفد وعددهم ٦ أو٧ ونجا واحد فقط روى لاحقا الوحشية التي رأها، أما بالنسبة لفاضل الجمالي فقد ألقي القبض عليه وحكم بالاعدام وبعد ٣ سنين تم العفو عنه وبقية رجالات العهد الملكي ليغادر العراق إلى سويسرا ثم إلى تونس حيث توفي في العام ١٩٩٧.

لم استطع الاستمرار في رؤية هذا المنظر فانسحبت دون ان أرى بقية الجثث وتلك كانت حصيلة يوم ١٤ تموز ١٩٥٨ لكن ذلك كان فصلا واحدا فقط ففي اليوم التالي كانت الحكومة الجديدة قد أعلنت عن جائزة مغرية لمن لديه معلومات تؤدي للقبض على نوري السعيد أهم رجالات النظام الملكي ما حول الآلاف إلى عيون تتفحص الوجوه لعلها تحظى بالمكافئة، كنت كغيرنا مرابطين في شارع الرشيد بانتظار التطورات التي لابد لها ان تمر من شارع الرشيد، وبينما نحن واقفين على الرصيف مر موكب صغير من السيارات العسكرية تتقدمه سيارة جيب أو لاندروفر يتصدرها ضابط لم أتبين رتبته لكنه أشر لنا بيديه بما معناه ألقينا القبض عليه، لاحقا عرفت الشخص الذي كان وصفي طاهر المرافق الأقدم للزعيم عبد الكريم قاسم.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة