ريسان الخزعلي
– الضوءُ اليومَ في بغدادَ أقلُّ سطوعاً منهُ أمسِ ،
في يومِ وصولي إليها . هل يترهّلُ الضوءُ هو كذلك ؟
– تحدّث َهمساً كلُّ نجم ٍ هنا يخططُ لقتلِ جاره .
– همساً ؟ تعني كما لو أنني أتحدّثُ مع الموت ؟
أدونيس
قصيدة يضع الشعر شفتيه على ثدي بغداد – 1969
ديوان : ورّاق يبيع كُتب النجوم .
( 1 )
الشاعر العربي الكبير / أدونيس / كثير السفر الى العواصم والمدن العربية وغير العربية منذ سنوات تكوينه الشعري الأولى . ولأنَّ السفر اكتشاف مالم يُكتشف ، ففي كل سفرة يكتب أدونيس اكتشافه قصيدة ً عن المكان / العاصمة أو المدينة – التي يزورها ، ويبثّها في دواوينه . يكتب قصائده عن العواصم والمدن نثراً في الغالب الأعم امعاناً في الاستغراق والتفاصيل ، يكتبها بتخطيط فني / جمالي وتمعن معرفي ورصد عياني ، ومناجاة روحية تتواشج مع التاريخ السياسي والنفسي والاجتماعي والثقافي لتلك العواصم والمدن . ومثل هذا الاشتغال المكاني ، كان قد أشبعه ُ كثيراً من خلال الكتابة عن قريته – مسقط رأسه ( قصابين ) مسحوراً هو الآخر بجماليات ( باشلار ) المكانية .
نعم ، زار أدونيس عواصم متعددة ، إلا أنه لم يزر بغداد سوى مرّة ٍ واحدة عام 1969 ، وهي زيارة عمل وتكليف ، وليس زيارة اكتشاف كما يقول ، رغم أنها كانت كذلك .
يقوا أدونيس: في السنة 1969 ، ذهبت الى بغداد عضواً في وفدٍ لاتحاد الكتاب اللبنانيين يرأسه سهيل ادريس لحضور مؤتمر الكتّاب العرب . بقيت فيها بضعة أيام دون أن أُشارك في نشاط الوفد أو أعمال المؤتمر ، لأسباب أود أن أحتفظ بها لنفسي ، وتلك زيارتي الوحيدة . الخواطر التي أنشرها اليوم كُتبت أثناء هذه الزيارة ، وهي تُنشر مع بعض التعديلات ، للمرة الأُولى، ودفعاً لتأويلات يتعشّقها بعضهم، أشير الى أنَّ هذه الخواطر ليست بالطبع حكماً على الشعب العراقي بوصفه كلاً ، وإنما تنهض على انطباعات عن السلطة وأهلها، وعن ( المناخ ) الثقافي والسياسي الذي كان يؤسس له الدائرون في فلكها وأفلاكهم في تلك المرحلة.
لم ينشر أدونيس هذه القصيدة الّا في ديوانه ( ورّاق يبيع كُتب النجوم ) الصادر عن دار الساقي عام 2008 رغم أنها قد كُتبت عام1969.
ووراء هذا التأخير في النشر ما يحتمل التأويل ، حيث أنَّ نشرها في حينه ربما يُسبب له حرجاً مع السلطة ، كون القصيدة تقوم على قراءة نبوءة وتقييم لما سيؤول اليه الوضع السياسي في العراق ، وإنَّ نشرها في العام ذاته سيعقّد موقف السلطة معه ، وربما يُصار الى منع أو مصادرة اصدارته حال دخولها العراق ، وهو المُحاصر أصلاً.
( 2 )
كيف رأى أدونيس بغداد حين أقام فيها، ومنذ أول لحظة تماس..؟
إن َّاستهلال القصيدة المُثبّت في أعلى مفتتح إشارتي، يقول الكثير عن حدسه واكتشافه، وأُضيف الى ذلك، أنَّ القصيدة بكامل وحداتها النصيّة، الخواطرية – كما أسماها، يشعُّ حضورها ، وكأنها تتحدث عن بغداد اليوم :
وكنت ُ حتى تلك اللحظة من السنة 1969 ، أتعب ُ كثيراً في التمييز بين البشر والشياطين والآلهة ، عندما أنظر الى أهل السلطة في العراق ، ربما لهذا لم أشعر في بغداد إلّا بالبرد حتماً وأنا في حضن الشمس ، لكن ، لكن ، ضَعْ أيها الشعر شفتيك على ثدي بغداد .
لقد كان / تعب التمييز/ يأخذ من أدونيس الكثير من الاستغراق ، والكثير من الأسئلة والحوارات الداخلية مع الذات ، كون المواجهة كانت صادمة ، وأنَّ الوهم هو صاحب السيادة في المكاشفة الشعرية بعد الفجيعة التي أدركها حسيّاً وبإنصات ٍ عميق :
رجال يديرون وجوههم الى الصور . صور لا وجوه لها ، وجوه كمثل ثقوب في صفحة الفضاء . رجال يسيرون في الشوارع كأنهم يحفرونها . يُخيّل إليَّ كأنَّ لخطواتهم اشكال القبور . للسياسة سوق ضخمة تغار منها جميع الأسواق . أصوات آتيه من مسارح المطلق : الجدران – حتى الجدران تتثاءب . المطرقة السياسية تدق سندان الحي الذي أقيم فيه . حفل أصوات – يدخل الحي في طقوسها فاتراً ، لا مبالياً ضائعاً في هبّاء الصراخ . أقول في نفسي : متى نعرف الصمت ؟ وأتساءل : هل تصمت الجنّة ؟ هل تصمت النار ؟ ..، أهنالك مَن يجرؤ على الفتوى أظنُّ أنَّ الوقت حان لكي نقول لجلجامش : أوهمت بعضنا ، وأقنعت بعضنا الآخر أن َّ للحياة. في بغداد سرّاً لا نزال ننتظر أن تكشفه لنا ، خصوصاً أنَّ كل َّ شيء يكاد أن يؤكد أنَّ هذه الحياة ليست إلا موتاً متواصلاً ، وأنظر الى سيف الطاغية كيف يُشحذ والى الأعناق كيف تُهيا للضرب تلك الجلسة :
– المسألة عميل ٌ صغير ٌ قُتلَ كالكلب . وكيف يُقتل العميلُ اذا كانَ كبيراً ؟ ..، أفهم الآن كيف يمكن أن ينتحرَ عصفورٌ ، مذعورا ً من بندقية تطير وراءه حيثما طار .
ورغم هول الصدمة التي كانت في جوهرها سياسية ، إلا أنَّ أدونيس أبقى لبغداد الأمل بأن تكون ثدياً ، نخلة ً : ومثل هذه الكينونة تكتنز الإشارة الى الولادة الجديدة والنمو والاستمرار، حتى وإن كانت الكآبة هي العلامة الأوضح في الوجوه كما هو وجه الشاعر حسب الشيخ جعفر : يبدو كلُّ شخص ٍ هنا ..كأنهُ هار ٍ من الكآبةِ كمثل حسب الشيخ جعفر . وأضاف لتأكيد الحلم بالأمل ، أنَّ الوقت العراقي ولود ، كولادة الجمال في عيون العراقيات : خيرٌ أن نتحدث عن المرأة ، عن الجمال . في بغداد نساء لا يعرف الوقت أن يتشيأ حقّاً إلا بهنَّ !
قصيدة ( يضع الشعر شفتيه على ثدي بغداد – 1969 ) كانت مرثية ً مبكرة ً بعد أن كانت كشفاً وحدساً في الوقت ذاته …