لا يفترض بنا ان نودع احمد اليوم او امس ولا في الغد ربما فوداع مثل هذا لا مكان له في خطابنا وسلوكنا .. كيف بوسع المرء ان يترك جزءاً من قلبه على قارعة الطريق؟ .. الرب هو الذي قال كلمته في احمد واومى له ان يدخل ملكوت السماء .. لم يكن بيدنا شيء وقد وضعنا بلمح البصر في ميدان معركة لا نعرف اين تبدأ واين تنتهي فيما نحن ما نزال مشتبكين في نزاع آخر .
اظن ان هذا ما يثير الغضب : ان تدخل معركة وانت مجرد من كل سلاح اعزل تماماً حتى انك لا تدري من تحارب ولم تحارب هذا العدو الغامض البعيد المجهول . غاضب لأنه قاطع احلامك وبدد افكارك والهامك وسلب منك سلامك الخاص الذي سعيت اليه ونظمت حياتك لتؤمنه وتديمه وتتشارك معه وتجعله نديمك اليومي المحجوب والمعتنى به .
غاضب لأنك امام حلقات حياتك وقد غيرت خارطتها وتفرقت ملامحها وتطشرت على حين غرة . لم يعد ذلك النظام الذي رسمت من خلاله ملامح السلام والطمأنينة له وجود .. والمادة التي بين يديك لن تزيد ان تكون مادة خاماً تنضح بالجدة وتشيع من حولها رائحة النشوة التي تعقب الخلق والوجود .
احمد : هل يمكنك ان تنهض وتقف على قدميك ؟ هاك يدي ودعك عن نفض التراب عن روحك ودفاترك .. واترك لي الدفتر الكبير الذي طوح به العصف .. انهض يا احمد .. ما الذي حل بك ؟ ولماذا انت مترب وملقى على الرصيف ؟ نحن لم نسمع انفجاراً ولا شعرنا تناثر اجساد كما نفعل في ايامنا هذه ؟ انهض قبل ان يأتي المارة فيجدوك معفراً فجهامتك لا تتناسب والفوضى ووجهك لا يليق الا بملاك سرمدي الطفولة .. هاك يدي واسرع فلدينا الكثير من العمل ..
انت فقط قم يا احمد وانا سأحضر لك القبيلة كلها والأحباب كلهم والمعجبون ، ينتظرون عند باب الصحيفة مندهشين من انشغالك ولكنهم لا يعرفون انك انما منشغل بالدفتر الأبيض الكبير الذي لم تنته من اخر رسومه بعد .. وا أسفاه ستظل بعض اوراقه في انتظار ملمسك .!
انهض على أي حال ايها العزيز لأنني ادعوك الى مائدة حميمة واحتفظ لك بقصص لم تسمع عنها واريك فضائح جديدة وفنونا سوداً لا صلة لها بفنك .. ستعرف كما عرفت على الدوام انهم يسبقونك ويسبقوننا وهم مبتكرون كما انت انما أي ابتكارات اليمة يصنعون لنا ؟ . اتذكر انني قلت لك انهم بحق اباطرة ما بعد الحداثة .. أي ان ابداعهم يفوق براءتنا وبراءة شعبنـا .
انهض قبل ان نفتقد سخونة الخبز العراقي ورائحة النارنج وطعمه .. انهض حتى لا يحتل احد الضيوف مقعدك المفضل ..
انت لن تتذرع بشوقك المعروف لطفليك ودفء العائلة الذي لم ترتو منه يوماً .. وانا اعذر لك هذا الشوق ولكنني اليوم اريد ان اجعلك ضيفي واعدك انني سأقص عليك ما يجعلك تضحك حتى وانت اسير النوم .
انهض يا احمد قبل ان يشمت بنا التجار والحواسم الذين فضحت ملامحهم عبر السنين الطويلة التي عملت فيها في بيتك ومأواك طاولتنا قرب سياج الياس والورود العراقية . اذكر اننا تحدثنا عن شيئين عراقيين لا يشبهان شيئاً من أي بلد آخر : الجوري والعندليب العراقي الغاضب مثلنا والذي يهز اغصان الجيران عندما يغرد . قلت لي : هذا مخلوق عراقي حقاً انه مجعمر بالمقارنة مع طيور الحب الرقيقة والعنادل الأنيقة التي تعزف لحناً جميلاً ، انما ليس كلحن العندليب العراقي . اما الجوري العراقي الممتلئ بالعطر الفواح برائحة تنهض مع موسيقانا فسيعود الى جذوره ويتأمل غيابك.
2: الحقيقة صنو المعرفة وابنتها .. وهي مصدر بهجة البشرية ومنار تقدمها وسيرها الى الأمام .. لكنها ليست مبهجة للأسف على طول الطريق الإنساني .. انها في احيان كثيرة مؤلمة وقاسية ومن هذه الحقيقة مغادرتك لنا يا احمد .. نعلم اننا يمكن ان نستعيدك ونتذكر ملامحك سيما انك فرشت عمرك كله بالصور واللوحات والإبداع .. عمرك يكفي الاف الأعمار للخاملين والرجعيين والعابرين لركب البشرية من دون ان يكون لهم صوت او رائحة او اثر .. ان الموت بالنسبة لهؤلاء قد حل منذ زمن بعيد ، وهم اختاروه عند اختيارهم طبخة العقول والنفوس الخاملة .. لقد أثروا ان يبددوا جوهرة قلبهم بالسفاسف والمنافع الزائلة والمتع المتاحة عند ضفاف المستنقعات المحيطة بنا . ولا لوم الا عليهم انفسهم.
ما الذي تركت خلفك ؟ ومن تركت يا احمد ؟ لك شرف ان الالاف سيبقون يتذكرونك ويحبسون دموعهم واحزانهم عن الملأ ويطلقونها عند كل جمال متجدد في حياتنا .. جمال الشروق البغدادي والنسمات العليلة التي تهب على الحديقة التي ترقب من مجلسك فيها اغنية الأمل التي يعلن عنها العندليب العراقي ..
سيزورك نسل الورد الجهمني حيثما يعرف اين انت .. وسيسرف في تلوين الجدران الكالحة من اجل ان تبتهج روحك مجدداً في السماء كما ابتهجت في الارض .. سيسقي مطر العراق قبرك وروحك وسيمس جذورك ويمسدها ويجعل منها ضفائر ويمنحها اسماً يليق بك .. ربما اسم طفلك او طفلتك .. ولكنني اقول وقلبي كله يقين ان ورد العراق الجهنمي حزين عليك ، واينما ندور في محلات بغداد وبيوتها سيهمس لنا غصنه : ماذا صنعتم لأحمد ؟ وكيف تفقدونه وسط الزحام ؟
لقد فقدناك يا اخي وسط ضجيج القنابل وعصف الترويع وسعينا للوقوف على اقدامنا، وعندما فتحنا عيوننا كنت قد غادرت . سأجد لك على كل مائدة طيبة مكاناً افترض انك تحبه واجلسك فيه .. سأروي لك الحكايا الطريفة والساخرة لحياة العراقيين وهم ينوءون بأحمال الكون الثقيلة وساقص عليك كيف اننا في الصحيفة سنستمر ولكننا سنتغير من دونك .. لن نكون كما كنا .
ان الرب سبحانه سيرفق بروحك كما بقلبك لا شك عندي ، ولكن كيف نقول لأنفسنا عندما نمر على عرشك في الصحيفة وبقايا اوراقك وتخطيطاتك ؟ من اين سنأتي بالقوة على استذكارك .. امس وقبله كان زملاؤك يلملمون اشلاء اعمالك ويتلمسونها ويتلون تأريخها : هذا الرسم لم يكتمل بعد .. هذا مشروع مؤجل وتلك رسوم لم نرها لأنك كنت تريد ان تطلقها وهي متقنة بما فيه كفايتك .
خسرناك وسط الضجيج والخوف .. خسرناك ونحن نتظاهر بالشجاعة فيما قلوبنا تدمي على العراق الجريح .. على العراقيين المكلومين .. ولن نعرف الى الأبد ما اذا كنا قد انشغلنا عنك اكثر مما ينبغي ام انك فاجأتنا بالترجل ؟
اما اليوم فكلنا نقول ليتنا اشتريناك بسعر اغلى وتعويض اكثر كرماً مما نملك من اجل ان نبقيك معنا .. ففجرك لم يحن بعد ولو كانت الكلمة لنا لقلنا فيك شيئاً آخر لكنها ليست مشيئتنا بل مشيئة كونية اعلى منا وارادة قدرية الهية لا نقوى سوى الخضوع لها.
كنا نريد ان نغتبط بالإحتفاء بك وليس نعيك او خسرانك .. ولكني اقول لك اليوم ان الاف العراقيين ممن عرفك او لم يعرفك حزنوا على فراقك .. والاف منهم انتابهم الغضب لأنهم تخلوا عن متعة عقلك وابداعك .. وانا واثق ان هذه الالاف ستتزايد يوماً بعد يوم وسيراكم الشرفاء والمبدعون لوعتهم لمغادرتك ايانا ..
لقد ترجلت من قطارنا في محطة لم تكن موجودة على الخارطة ولم تكن مرسومة في خرائط العراق ، مثلك مثل الشهداء الذين سبقوك .. ونحن لم ننتبه اليك وانت تنقل خطواتك خارج رحلتنا وتتلاشى في تلك المحطة المشؤومة وكأنك ما اردت ان تفاقم من حزننا . لقد توقف زمنك في محطتك الأخيرة ولكن يا عزيزي صدقنا اننا نحتاج دعاءك من اجل ان نتحمل بقية الرحلة .