أشد ما يمكن ان نخشاه ضمن الاوضاع والاصطفافات التي انحدرنا اليها، بفعل أربعة عقود من الهيمنة المطلقة للنظام المباد، و16 عاماً من فوضى تشرذم أسلابه بين قوارض الفتح الديمقراطي المبين؛ اننا قد وصلنا الى ما وصل اليه سكان أثينا من انحطاط للهمم والعجز عن ايجاد أي حل سوى ما وضعه الشاعر (اليوناني- المصري) قسطنطين كافافيس (1863-1933) عنواناً لقصيدته الخالدة “في انتظار البرابرة” بوصفهم نوعا من الحل لما انحدروا اليه من يأس وانسداد للآفاق. الفرق اننا لم نحظى بجحافل البرابرة عند أسوار بغداد، بل بنوع آخر محلي لا يقل من ناحية القدرات والاهتمامات عن البرابرة، يمكن تسميته بالكركدن الاجتماعي والسياسي، مخلوق خرافي أطلقته حقبة الفتح الديمقراطي المبين. كل هذا العجز والفشل الذي يعيد تدوير نفسه في عراق ما بعد “التغيير”، مع كل ذلك الحطام الهائل من البشر والقيم الذي خلفته حقبة “جمهورية الخوف”، تدفع نحو الاستجارة بذلك المخلوق الضخم الذي اشرنا اليه كنوع من الحل لهذه الفوضى التي جرفت أدسم اسلابها الى معلفه. المعطيات على أرض الواقع، تتحدث وعلى العكس مما يعصف في أذهان “الافندية” من اضغاث احلام؛ عن نضج كل الشروط لاستقباله، وغزوته المرتقبة ستكرف في طريقها الى الوليمة الازلية الكثير من هلوسات المشهد الراهن.
ان عدم تمكننا كعراقيين وفشلنا في التأسيس لوعي وتنظيمات سياسية ومهنية، تنتصر للمشروع الوطني والحضاري، بالرغم من مرور كل هذا الوقت على زوال سلطة الاستبداد، هي من شرعت الابواب امام ذلك الخيار المنحدر الينا من متاحف المنقرضات. كما ان محاولات حرق المراحل واجترار شعارات وسرديات وخطابات تجارب بلدان اخرى، ورمي سكراب تمنياتنا على قرن الكركدن الوحيد، لن تنتشلنا من مواجهة ذلك المصير. نقف اليوم امام مفترق طرق ومتاهة، أوجزتها عبارة غرامشي “عالم قديم يلفظ انفاسه وعالم جديد لم يولد بعد..انها فرصة الوحوش”. وفي مضاربنا التي شهدت نهوض ذلك المخلوق المهدد بالانقراض من وسط أنقاض القديم المحتضر، جعل من امكانية ولادة ذلك “الجديد” بعيدا وعسيرا. وفي الوقت الذي خاب انتظار سكان أثينا، بعد تغيير البرابرة لخط مسيرهم بعيدا عن مدينتهم، واصل كركدن مرحلة “عدالتنا الانتقالية” تقدمه الكاسح والواثق في شفط المزيد من أسلاب الغنيمة الازلية.
وسط كل هذه المناخات والاصطفافات الخابطة، يصبح أمر العتب على من يراهن على قدوم الكركدن بوصفه نوعا من الغوث، مغايرا للانصاف. فكيف لا تنتحر بوصلة المراقبين للمشهد الراهن عندما تجتاح مسامعها عنوة وطواعية مقولات من نسيج ما توصلت اليه احدى حفريات صاحب حزب الحل السيد جمال الكربولي على سبيل المثال لا الحصر: “لا توجد منطقة وسطى ما بين الشعب وبين أحزاب السلطة الغاشمة… على كل عراقي أن يحسم موقفه؛ أما مع السلطة أو مع الشعب”. وعلى مثل ذلك يمكن التعرف على معالم هذه الحقبة، والتي باتت قاب قوسين أو ادنى من استقبال “الحل” الذي احتشد من اجل استقباله وخدمته اقوام ينطبق عليها المثل المعروف “سبحان الجمعهم من دون ميعاد”. ويبقى السؤال عن سر ولغز كل هذه الابهة والسطوة لمثل هذه الحلول والبدائل الخرافية، بانتظار جيل جديد لم تدجنه اصطبلات “تبرير الجريمة واسكات الضمير” كما أشارت بوصلة الروائي والمفكر الليبي ابراهيم الكوني…
جمال جصاني