انمار رحمة الله
أعرف شخصاً لم أره ضاحكاً في يوم. كثيرٌ من الناس ظنَّ أنه عبوس جامد، لهذا أطلق عليه الناس تسمية (غَثيث). لكنني عرفتُ السببَ أخيراً. بعد أن جمعتني الصدفة معه ذات صباح، كان جالساً لوحده في المتنزه، ووجهه بالفعل متيبِّس، لا يشي بأي إحساس. لم يتضح عليه الفرح أو الحزن. من الصعب التكهن بما يدور في عقله، يضع على عينيه نظارة سوداء كبيرة. جربت الاقتراب منه ومجاملته. (صباح الخير..) قلتها مع ابتسامة لم أبالغ فيها، كنت أجسَّ على مهل الأرض التي أدوس عليها، خوف أن أقع في فخ ظنه السيء بي. ردَّ عليَّ من دون أن يحرك رأسه، فحمدت الله في قلبي، وطلبت منه الجلوس إلى جنبه فلم يمانع. بعد حديث بيني وبينه عن الطقس، وعن السياسة والمجتمع والحياة والوظيفة. تشجعتُ وسألته:
- سيدي عندي سؤال إذا سمحت
- نعم تفضل
- لماذا يطلق عليك الناس اسم (غثيث)..؟ أرجو أن لا يكون سؤالي محرجاً لكَ، ولكنني رأيت فيك رجلاً طيباً وكلامك جميل وليّن.!!. فلماذا يتهكم عليك أهل المدينة هكذا.
تنفس وحرك صدره وكأنه يكتم شيئاً، بدت لي ضحكة مخنوقة في الصدر لم تصل إلى فوهة فمه. ثم قال: - هم يقولون هذا لأنهم لم يروني ضاحكاً في يوم.. أنا أعذرهم فأنا لا أجيد الضحك.
- لا تجيد الضحك ؟!
- نعم لا أجيده
نظرتُ إليه قليلاً ثم قلتُ: - ولكنك ضحكت قبل قليل.. أنا رأيت صدرك يرتفع وينخفض وكأنك تكتم ضحكتك.
- نعم بالفعل كنتُ أضحك قبل قليل، ولكنني لا أجيد إخراج الضحكة إلى فمي. وجهي أيها الصديق يتهشم ذا ضحكتُ.
- يتهشم (خرجت الكلمة من فمي عالية)
- نعم يتهشم… كنتُ إذا أضحك؛ يتناثر وجهي بعدها على الأرض. آه لو تعلم كم كنتُ أتعب في جمعه، لم يمرُّ رجل ولا امرأة إلا وداس على قطعة منه، وحين أجمعه يكون وسخاً نتيجة التراب وسحق الأحذية. وفي كل مرة يتهشم أنشد المارّة أو من كان بقربي لمساعدتي في جمعه، حتى آخر ضحكة ضحكتها، تلك التي فقدتُ بعدها عينيَّ، لقد تدحرجتا على طريق المارة. سمعتُ الأطفال يهتفون وهم يهرولون للمسك بعينيّ المتدحرجتين، حتى سقطت واحدة في بالوعة المياه الآسنة، وأخرى سحقتها سيارة وتهشمت.. هذا ما أخبرني به الأطفال الذين عادوا ليخبروني يائسين، معتذرين.. لهذا قررت الابتعاد عن كل شخص يقذف في قلبي الرغبة بالضحك.
ثم سكتنا قليلاً وانفجرت متسائلاً: - ألم تحاول علاج حالتك؟!
- لا لم أستطع.. علاجها يتطلب مني تمريناً طويلاً على نوع من الضحك. الضحك المتداول في الناس، وفق قياسات وهندسة معينة، لطول الفم وامتداده. إنه ضحك محسوب وانا جاهل في الحسابات يا صديقي.
- إذن أنت تتجنب الضحك كيلا يحدث معك خطب ما، يجعل أجزاء وجهك تتهشم.
- نعم بالطبع… من حسن حظي أنني حرصت كل هذه المدة على أجزاء وجهي المتبقية، ولم أضيُّعُ جزءاً منها.
- لقد كنتُ أظن أنني الوحيد المُبتلى (قلت بصوت خفيض)
- ماذا تعني (قال الرجل الغثيث)
- كيف سمعتني؟
- السمع يقوى عند الضرير بلا شك..
- ولا يهمك.. لقد كنت اظن أنني الوحيد الذي يتهشم وجهه في هذه المدينة، ولكن بعد معرفة سبب عدم ضحكك، عرفتُ أنني لستُ الوحيد.
- هل يتهشم وجهك أنت أيضاً؟
- نعم… ولكن ليس من الضحك بالطبع، ولكن حين ينظر بعض الناس لي بغيظ أو حسد وثأر، أو يطالعني بنظراته شخص فظ غليظ القلب، يتهشم وجهي واظل حائراً في جمعه، لهذا اطلق الناس عليَّ اسم (الخنيث).
- آها… أنت إذن من يسميه أهل المدينة الخنيث؟!!
صمتُ قليلاً ثم أجبته: - نعم هو أنا… أطلقوا عليَّ هذا الاسم، بعد أن عرفوا أنني من النوع الذي لا يختلط كثيراً، وظنوا أن عدم مواجهتي خوفاً، لا حرصاً على وجهي وسلامته.
- هل أنت من النوع الذي ينثر النكت أم إنك من النوع الجدّي في كلامه دائماً؟
- لا لا أنا من النوع الجاد ولا أضحك إلا نادراً
فأشار إلى نظارته وقال: - إذن لا تخف فليس لدي عينان أنظر بهما بشزر، ولن أخشاك أيضاً
تنفستُ حينها، وابتسمتُ، ثم مددت يدي إليه وارتحلنا من مكاننا في الحديقة، وهو يقول لي واضعاً كفه على كتفي: - هل تحب الحليب بالكاكاو… أنا أعرف صاحب محل جاد، لا يضحك أبداً، وقلبه ليس فظاً ولا غليظاً… أكيد سيعجبك المكان.