عبد الكريم واكريم
ظهرت «السينما الموازية» في الهند في الخمسينيات من القرن الماضي في مقاطعة البنغال، حيث أنجز مخرجون أمثال ساتياجيت راي ومرينال سينغ و ريتويك غاتاك وتبان سينها وآخرون أول أفلامهم متأثرين بأفلام «الواقعية الإيطالية الجديدة» وبأساليبها المضادة لسينما الأستديوهات. ومِثل هذا التيار السينمائي، وبميزانيات منخفضة، تناول هؤلاء المخرجون الواقع والمشاكل الاجتماعية بشكل نقدي معتمدين على ممثلين هواة أو غير محترفين ومصورين أحداث أفلامهم في الشارع أو في فضاءات خارجية عكس السينما الهندية التجارية التي كانت تُصنع بشكل كامل أو شبه كامل في الاستديوهات وتعتمد على الإبهار.
وجاءت هذه الأفلام لتُحدث نوعا من القطيعة مع السينما التجارية الهندية التي كانت ومازالت تعتمد على الاستعراض وكثرة الأغاني والمواضيع الرومانسية والميلودراما.
وقد استطاع هؤلاء المخرجون نحت أسمائهم في الريبيرطوار السينمائي العالمي كسينمائيين مُجدِّدِين وذوي رؤية مختلفة للعالم والناس وأساليب فنية متميزة تمتح من الثقافة والأدب والفنون المحلية كما من التراث السينمائي والأدبي والفني العالمي.
وقد امتد تيار «السينما الموازية» بعد ذلك لتلتحق به أسماء أخرى من خارج البنغال، فيها من اشتغل من خارج منظومة السينما الهندية التقليدية ومِن داخلها في نفس الوقت، مضيفا إليها ومجددا فيها أومحاولا تفجير الأنواع السينمائية البوليودية من الداخل. ومنذ أواخر السيتينيات وحتى الثمانينيات أطلق على هذه الحركة «الموجة الجديدة في السينما الهندية»، والتي تمكن أغلب روادها الجدد من دراسة السينما في أواخر الخمسينات أو بداية السيتينيات ومنهم من تأثر ب»الموجة الجديدة الفرنسية» ، إذ عملت الدولة على فتح معاهد سينمائية وتشجيع سينما بديلة رغم المقاومة العنيفة لقطاع السينما الجماهيرية التي رفضت هؤلاء المخرجين بداية لكن حاولت استيعاب بعضهم فيما بعد.
ساتياجيت راي على رأس القافلة
يمكن اعتبار ساتياجيت راي متزعم هذه الحركة البديلة في السينما الهندية، ومن أول من فتح الباب للآخرين ليحذوا حذوه، وقد كان للقائه بالمخرج الفرنسي الكبير جون رونوار الذي أتى للبنغال لتصوير فيلمه «النهر» تأثير كبير عليه، إضافة لمَقامه القصير في لندن الذي شاهد خلاله العديد من الأفلام العالمية، لكن مشاهدته لفيلم فيتوريو ديسيكا «سارق الدراجة «، أحد أول وأهم أفلام الواقعية الجديدة الإيطالية، شكل بالنسبة له العلامة الفارقة التي قَرَّر بعدها مباشرة أن يصبح مخرجا سينمائيا، ويخرج أفلاما على منوال هذا الفيلم، وذلك ما كان.
وكان أول فيلم لساتياجيت راي هو «بانتر بانشالي» (1955) المقتبس عن رواية للكاتب الهندي بيبهوتيبهوشان بانديوبادهياي، والذي تدور أحداثه في قرية نائية يعاني سكانها من شظف العيش ، ونتتبع خلاله معاناة أسرة قروية فقيرة يضطر ربها للسفر للمدينة للعمل ويترك زوجته وابنه وابنته الصغيرين في القرية، وحينما يعود تقرر الأسرة الهجرة للمدينة بعد أن أصبحت الحياة في القرية مستحيلة. ونجد بالفيلم لمسات متميزة لمخرج قادم بقوة للمشهد السينمائي، ليس في الهند فقط بل في العالم، وقد شارك هذا الفيلم في مهرجان كان السينمائي ونال جائزة من هناك.
وقد صورت أغلب مشاهد الفيلم في ديكورات طبيعية وبممثلين غير محترفين، أبان راي على قدرة كبيرة في إدارتهم مُقتديا بفيتوريو ديسيكا في فيلم «سارق الدراجة». وابتداءا من هذا الفيلم الأول الذي شكل البداية ل»ثلاثية آبو» والتي تتكون من فيلمين آخرين هما «أباراجيتو» (1956) و» عودة أبو» (1959) أظهر ساتياجيت راي اهتمامه بالتفاصيل وانتقاده للواقع البئيس الذي تعيش فيه الطبقات المحرومة والفقيرة.
وقبل أن يُنهي راي ثلاثيته أخرج فيلمين الأول عبارة عن كوميديا «الحجرة الفسفورية» (1958) ، والثاني «غرفة الموسيقى» (1959) ، وهو واحد من بين أهم أفلامه خلال هذه الفترة والذي صور فيه السقوط المهول للأرستقراطية الإقطاعية ولتقاليدها ولحبها للفن في شخص الإقطاعي النبيل الذي لم يستوعب تقلبات الدهر وتبدُّلاته وظل عالقا في الماضي وتقاليده التي انتهت إلى الأبد.
نتابع في الفيلم السقوط التدريجي لإقطاعي من طبقة النبلاء الذي ظل يُصِرُّ، رغم وضعه المادي المُتردِّي، في الاستمرار في حياة الرفاهية خصوصا فيما يتعلق بإحيائه لحفلات موسيقية تُكلفه أموالا طائلة وتصل به إلى درجة الإفلاس. وقد استطاع ساتياجيت راي أن ينقل في هذا الفيلم أجواء الأرستوقراطية المُشرِفة على نهايتها الحتمية بشكل فني متميز، فيما تنشأ بالمقابل طبقة أخرى مختلفة في أذواقها ونمط عيشها وأسلوب حياتها.
في هذا الفيلم نجد الموسيقي والغناء حاضرين لكن بشكل مختلف تماما عما يحضران به في السينما التجارية والجماهيرية الهندية، إذ تشكل هنا جلسات الموسيقى التي ينظمها الإقطاعي مناسبة لتطور الأحداث ولحظات فيلمية للغوص أكثر في تكوين الشخصية الرئيسية عكس مايحدث في السينما التجارية حيث تكون الأغاني مجرد فواصل موسيقية لاتحمل في طياتها أي إضافة درامية.
ويشكل هذا الفيلم صحبة «ثلاثية آبو» الأفلام التي أسَّست للسينما الموازية والبديلة في الهند والتي ساهمت في تكريس ستياجيت راي كواحد من أهم المخرجين عالميا.
ظل ساتياجيت راي مخلصا للمبادئ الجمالية التي أسس عليها سينماه إلى حدود الستينيات ، ليجرب بعد ذلك، في السبعينيات والثمانينيات، المرور لتجارب عكس تلك التي انطلق منها، فصور بضع أفلام باللغة الهندية وداخل الاستوديوهات وبنجوم هنود معروفين، لكنه رغم كل شيء لم يتنازل لقوانين السوق ومتطلبات السينما التجارية، ويعتبر فيلمه «لاعبو الشطرج « الذي لعب بطولته ثلة من نجوم السينما الهندية التقليدية كسنجيف كومار وأمجد خان وشبانا عزمي إضافة للممثل الإنجليزي ريتشارد أتنبورو، مع الصوت الخارجي المعلق والمصاحب للأحداث للنجم أميتاب باتشان، مثالا لتجربته هاته. ويرصد الفيلم فترة تاريخية من فترات الهند حيث بدأ الإنجليز في إحكام السيطرة على مناطق من البلاد، وكيف أن الطبقة المُرفَّهة والماسكين بزمام السلطة كانوا غارقين في حياة اللهو والترف غير عابئين بالخطر المحدق بالبلاد.
ولم يعد راي لهذه التجربة كونه كان يحرص على السيطرة على الحوار الذي تدور به أفلامه، الأمر الذي لم يكن ممكنا مع مثل هذه الأفلام كونه لايحسن اللغة الهندية الأوردية.
إضافة لكون ساتياجيت راي كان يكتب سيناريوهات أفلامه كلها، المقتبسة منها من أعمال أدبية وغير المقتبسة، فقد كان أيضا يضع الموسيقى التصويرية لأفلامه ، فبعد تجربة في أفلامه الأولى مع الموسيقار الكبير رافي شانكار، الذي حسب مايذكره راي نفسه لم يحاول تلطيف موسيقاه لكي تصبح موسيقى تصويرية للأفلام، انطلق بعد ذلك لوضع الموسيقى لأفلامه بنفسه.
الفرسان الثلاثة للسينما البديلة
إضافة لساتياجيت راي كان هنالك ثلاثة فرسان سينمائيين من البنغال لايَقلُّون عنه إبداعا وتمكنا من العملية الإخراجية واصطفافا في الجهة المقابلة للسينما السائدة، والتي لم يكن يهمُّ صانعيها سوى الإقبال الجماهيري الكثيف بغض النظر عن أي خطاب فني أو تَبَن لقضايا فكرية أو اجتماعية أو إنسانية. هؤلاء هم مرينال سين، ريتويك غاتاك وتابان سينها.
مرينال سين الماركسي الملتزم
تأثر مرينال سين بالعديد من التيارات والتوجهات الفكرية والفنية والسينمائية من بينها الوجودية والسوريالية و»الواقعية الجديدة» الإيطالية و»الموجة الجديدة الفرنسية»، لكنه ظل مخلصا لأفكاره اليسارية التي جعلته يتناول قضايا الطبقات المسحوقة في أفلامه بشكل فني حاول أن يطوره باستمرار وأن يتجاوز نفسه من خلاله، إذ ورغم كونه صحبة ساتياجيت راي وريتويك غاتاك المؤسسين للسينما البديلة والموازية في الهند، إلا أنه أيضا تزعم في أواخر الستينات تيار «السينما الجديدة» أو «الموجة الجديدة في السينما الهندية» التي ستعرف ظهور مخرجين شباب دارسين للسينما سيأتون بنظرة مختلفة للعمل السينمائي حتى داخل السينما التجارية التقليدية.
يمكن اعتبار نقطة الاختلاف بين مرينال سين وساتياجيت راي، رغم أن هنالك ما يشكل رابطا بين سينماهما، كون الأول أقل نخبوية من الثاني وأقل منه جماهيرية عند الجمهور الغربي ربما لاتباطه أكثر بهنديته وعدم انفاتحه بشكل كبير كما عند راي على الثقافة الغربية، ورغم ذلك فقد استطاعت أفلام مرينال سين أن تصل لأكبر وأهم المهرجانات السينمائية العالمية أمثال كان وبرلين والبندقية وغيرها وتنال فيها جوائز مهمة.
ريتويك غاتاك..شعلة فنية انطفات مبكرا
يعتبر ريتويك غتاك ثالث فرسان السينما البديلة في الهند وقد طبعت أغلب أفلامه تيمة الهجرة نظرا لكونه إبن أسرة مهاجرة من البنغال الشرقية (بنغلاديش الحالية) إلى البنغال الغربية، وقد عاش وهو طفل هذه الحالة وأثرت على مساره السينمائي.
ويكن اعتبار فيلم ريتويك غتاك «ناغاريك» (1952) أول فيلم ضمن تيار السينما البديلة في الهند والذي سبق الفيلم الأول لساتياجيت راي «بانتر بانشالي»، إلا أن هذا الفيلم لم يعرض سوى بعد ذلك بسنوات كثيرة.
عكس ساتياجيت راي و مرينال سين لم تصل أفلام ريتويك غاتاك للعالمية وهو على قيد الحياة رغم طليعيتها واستباقها للزمن الذي صنعت فيه. وقد دَرَّسَ غاتاك السينما لفترة في بداية الستينيات وتتلمذ على يديه مخرجون مهمُّون في السينما الهندية أثَّر فيهم وظهرت بصمته الفنية واضحة في أعمالهم.
وتوفي غاتاك سنة 1974 وعمره أربعون سنة فقط، تاركا وراءه عدة مؤلفات وأفلام، منها التي لم يتمكن من إكمال تصويرها.
تبان سينها .. مزاوجة بين الجماهيرية والاختلاف
تميز المخرج تبان سينها رابع فرسان السينما البديلة في البنغال وفي الهند كونه زاوج الاشتغال في السينما البنغالية والهندية كليهما عكس رفقائه في التيار المجدد والبديل، وقد تراوحت أفلامه بين الواقعية الاجتماعية والدراما العائلية والأفلام الفنتاستيكية وأفلام الأطفال. وربما كان المخرج الأكثر جماهيرية في الهند من كل رفقائه في السينما الموازية، وقد اشتغل معه العديد من نجوم السينما الهندية التجارية أمثال دليب كومار، شبانا عزمي، عرفان خان وآخرون.