دينيس سنور*
يبدو العالم الآن وكأنه يوشك على الخضوع لـ»تحول كبير» آخر، في ظل تغيرات أعمق كثيراً من الأحداث الاقتصادية أو الجيوسياسية الرئيسية الجاذبة للاهتمام الإعلامي حول نهضة آسيا الاقتصادية أو الحرائق في الشرق الأوسط. وسوف تعيد التغيرات المقبلة تعريف طبيعة تفاعلاتنا الاقتصادية ــ والديناميكيات الاقتصادية التي تؤسس لها.
ولا يقل هذا التحول في نطاقه عن التحول الذي حدث قبل أكثر من 8000 عام عندما انتقل البشر من المجتمعات البدوية المترحلة الجامعة للصيد إلى المجتمعات الزراعية المستقرة، والذي أفضى في نهاية المطاف إلى ظهور المدن. كما حدث تحول مماثل في أوروبا في القرن العاشر الميلادي، مع نشوء النقابات ــ جمعيات من العمال المهرة الذين سيطروا على ممارسة حرفتهم في مدينة بعينها ــ وقد مهد هذا الطريق لاندلاع الثورة الصناعية.
وتظل الخصائص الدقيقة للتحول الوشيك غير واضحة. فقد تتضمن ثورات في التكنولوجيا الحيوية والرقمية وتكنولوجيا النانو، جنباً إلى جنب مع ثورة الشبكات الاجتماعية التي تزيل الحواجز الجغرافية والثقافية. غير أن الأمر الواضح بالفعل هو أن هذا التحول، مثله كمثل التحولات السابقة، سوف ينطوي على تغيير جوهري في كل علاقاتنا الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية التي تدعمها.
يقدم لنا اقتصاد التيار السائد تحليلاً بسيطاً ومباشراً لمثل هذا التحول. فكلما سمحت التغيرات التكنولوجية أو غيرها من التغيرات بتعويض الناس عن الفوائد التي يمنحونها لبعضهم البعض (مع خصم التكاليف)، يصبح من الممكن أن يعدل نظام السوق القائم على الأسعار نفسه. وعندما تخلق التغيرات عوامل خارجية تصبح إعادة الهيكلة الاقتصادية مطلوبة ــ ولنقل على سبيل المثال، إدخال تعديلات على النظام الضريبي، أو إعانات الدعم، أو التحولات التنظيمية، أو تحسين حقوق الملكية ــ للتعويض عن التكاليف والفوائد التي لا تستطيع السوق التعويض عنها. وعندما تفضي التغيرات إلى مستويات مرتفعة بنحو خاص من التفاوت بين الناس، تنشأ الحاجة إلى تدابير إعادة التوزيع.
ويستند هذا النهج إلى افتراض مفاده أنه إذا تم تعويضهم بالكامل عن الفوائد الصافية التي يمنحونها لآخرين، فإن الأفراد الذين يسعون إلى تحقيق مصالحهم الخاصة سوف ينقادون، «وكأن يداً خفية تحركهم» على حد تعبير آدم سميث، إلى خدمة المصلحة العامة أيضا. ووفقاً لهذا الرأي فإن كل شخص يعد إنساناً اقتصادياً عاقلا: شخصاً فردانياً عقلانياً بالكامل ومدركاً لمصلحته الذاتية.
ولكن كما تُظهِر «التحولات الكبرى» السابقة، فإن هذا النهج غير كاف، لأنه يهمل الأسس الاجتماعية لاقتصاد السوق. ففي مثل هذا الاقتصاد، يميل المتعاقدون إلى احترام عقودهم طواعية، وليس من خلال الإنفاذ القسري. وما يحمل هذا الاقتصاد على أداء وظيفته على النحو اللائق ليس رجل شرطة يحمي كل متجر، بل ثقة الناس ونزاهتهم ومشاعر الأخوة والرفقة التي تدفعهم إلى احترام الوعود والانصياع للقواعد السائدة. وعندما يغيب هذا الغراء ــ كما هي الحال بين الإسرائيليين والفلسطينيين ــ يصبح الناس عاجزين عن استغلال كل الفرص الاقتصادية المتاحة.
ويتجلى هذا الارتباط في الأهمية الاجتماعية العميقة في أغلب المعاملات الاقتصادية التي يزاولها أي فرد. فعندما يكتسب الناس سيارات باهظة الثمن، وملابس من ماركات عالمية، ومنازل فاخرة، فإنهم يسعون عموماً إلى الاعتراف الاجتماعي. وعندما يتبادل الأزواج أو الأصدقاء الهدايا أو يقومون معاً بإجازات، فإنهم بهذا يؤدون صفقات اقتصادية مستلهمة من الانتماء والرعاية.
باختصار، لا يعترف الاتجاه الاقتصادي السائد ــ ومفهوم الإنسان الاقتصادي العاقل ــ إلا بنصف ما يجعلنا بشراً. لا شك أن مصلحتنا الذاتية تحفزنا، ولكننا أيضاً مخلوقات اجتماعية في الأساس.
وهذا الإغفال معوق بنحو خاص في ضوء التحول الوشيك، والذي من شأنه أن يقلب أسس المجتمع المعاصر رأساً على عقب. والواقع أنه في الوقت الحاضر، وبرغم التكامل الاقتصادي غير المسبوق والفرص الجديدة للتعاون، تظل تفاعلاتنا الاجتماعية مفتتة.
وتكمن المشكلة في تصورات للهوية عميقة الجذور ــ ومسببة للشقاق. فالعالم ينقسم إلى دول قومية، كل منها تسيطر على العديد من أدوات السياسة العامة. وولاءات الناس الاجتماعية منقسمة بدرجة أكبر على أسس دينية وعرقية ومهنية وجنسية بل وحتى أسس متعلقة بالدخل.
وحيثما كانت الحواجز الاجتماعية قوية بالقدر الكافي، فمن المحتم أن تظهر الحواجز الاقتصادية. وتتراوح هذه الحواجز بين سياسات الحماية التجارية وضوابط الهجرة المتزايدة الصرامة إلى الحروب الدينية والتطهير العرقي.
من الواضح أن النجاح الاقتصادي يعتمد إلى حد كبير على الكيفية التي ينظر بها الناس إلى انتماءاتهم الاجتماعية. وتزعم إحدى وجهات النظر أن هوياتنا ثابتة ومحكمة وخارجية المنشأ، ومتعارضة جوهرياً مع بعضها البعض. ومن الواضح أن هذا التقسيم الكلاسيكي إلى «نحن في مواجهة هم» يؤدي إلى تعاطف المرء مع مجموعته الداخلية ودخوله في صراع عنيد مع المجموعات الخارجية ــ وهو مصدر للصراع لا قرار له عبر التاريخ.
ولكن هناك رأي آخر ممكن: فلكل شخص هويات متعددة، ويتشكل بروز هذه الهويات وفقاً لدوافع المرء وظروفه. وهذه الفكرة ــ التي تضرب بجذور راسخة في علم الأعصاب وعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع ــ تعني ضمناً أن الفرد يتمتع بقدر كبير من الحرية في تشكيل هويته.
ولا يعني هذا أن الهويات القومية والدينية ليست ذات أهمية جوهرية. بل إنها تعني ضمناً أننا مبدعون مشاركون في تشكيل هوياتنا. وبدلاً من اختيار الهويات التي تعمل على تقسيمنا، وتجعل من المستحيل التصدي للمشكلات العالمية المتكاثرة، نستطيع أن نشكل هويات تعمل على نشر مشاعر التراحم والمسؤولية الأخلاقية.
وهناك مجموعة متزايدة من الأدلة العلمية التي تثبت أن التراحم، مثله كمثل أي مهارة أخرى، يمكن تأصيله وتعزيزه من خلال التعليم والممارسة. وبالتالي فإن المؤسسات التعليمية قادرة على العمل على تنمية قدرات الطلاب على التراحم جنباً إلى جنب مع قدراتهم المعرفية والإدراكية.
وعلى نطاق أوسع، لابد أن تكون المجتمعات في كل مكان مدفوعة بهدف مشترك يتجاوز خلفياتها المتنوعة. ويُعَد حل المشكلات التي تمتد عبر الحدود نقطة جيدة للبدء، مع الاستعانة باستراتيجيات تنطوي على مهام محددة لمجموعات وبلدان مختلفة تتعهد بتنفيذها على النحو الذي يعزز الصالح العام. ومن الممكن أن تساعد أيضاً مبادرات مثل ورش تسوية النزاعات، ولجان المصالحة، وبرامج التعليم عبر الثقافات، والعمل المدني الإلزامي لخريجي المدارس.
الحق أن وجهة النظر السائدة التي تزعم أن الناس فاعلون اقتصاديون مهتمون بالكامل بمصالحهم الذاتية تنكر قدرتنا الفطرية على تعزيز التبادلية والنزاهة والمسؤولية الأخلاقية. وبوسعنا في تعميق الانتماءات الاجتماعية أن نرسي الأساس لشكل جديد من الاقتصاد حيث المزيد من الفرص التي يمكن اغتنامها.
*دينيس سنور رئيس معهد كيل للاقتصاد العالمي، وأستاذ الاقتصاد في جامعة كيل.