يوسف عبود جويعد
عندما يتهم العقل بالجنون, تتغير معالم الحياة, وتضمحل الصورة النقية الصافية, ويحل محلها الوجه الذي لا نرغب في رؤيته رغم معرفتنا مسبقاً في حقيقة وجوده, وهو ذلك العالم المختل الذي لا يعتمد على العقل في إدارة دفة نظام الكون, ومن خلال هذه الرؤية الفنية التي نرى من خلالها الجنون بعين العاقل, والعقل بعين الجنون, تقدم لنا الروائية الليبية عائشة الأصفر روايتها (النَّص الناقص) التي لا يمكن أن نراها إلا عبر هذا المنظار بالغ الدقة، فلم تكن المهمة في هذا النص استعراض وقائع أحداث دارت رحاها في مدينة (سبها) وما يحيط بها من قرى ومناطق أثرية وطقوس وعادات وتقاليد ومدارس لتتسع تلك الدائرة وتلتحق مدن أخرى معها وتكبر أكثر لنعبر الحدود الليبية مع المهجرين، ونشاركهم رحلة العذاب والعطش والجوع، والموت من شدة الالم، ونعيش الصحراء برمالها الحارقة ورياحها الحارة، ولم تكن البؤرة الرئيسة التي سوف نستند عليها في عملية ولوجنا لفضاء هذا النص تلك الاحداث، وإنما هي أشبه بالأدغال الكثيفة المتشابكة التي تغطي هذه البؤرة التي سوف نكتشفها ومن خلالها نطوف في هذا العالم السردي, إذ تبرز أحداث حكاية العلاقة العاطفية الغريبة بين مريم وعامر, التي ستمنحنا هذا المنظار الذي سيغير وجهتنا واتجاهنا لنكون مع الرؤية الفلسفية الداعية الى الانتباه لأن العالم برمته يسير نحو الجنون,وان ما يحدث في هذا الكون لا يصب بخدمة الإنسان وتطوره، بل أنه أشبه بطوق يزداد ضيقاً حد الاختناق، إذ إن بداية تلك العلاقة التي نشأت بين الاثنين تبدو طبيعية جداً، إلا أنها في حقيقة الأمر انعكاس لدرب معبد يضيؤه هذا الشرر المتطاير الذي يجعلنا نتلمس ناصية هذا الإحساس بالتوحد مع الرؤية، وهكذا فإن حضور عامر مع ابنة اخيه لمقابلة استاذة مادة الرسم مريم وشحنة الانبهار التي اكتست ملامح عامر عند رؤيتها:
(وبدأت تحدثني عن نجمة، تتحدث بهدوء وبصوت خفيض،فم مضموم، وشفتان مرسومتان باكتناز تفرجان عن فلجة أضفت على لغتها طعماً مختلفاً, لغتها التي لا تخلو من تباين في اللكنة وكأنها تشد على الكلمة تجذبها بينما تحاول الاخيرة التحرر من لسان صاحبتها، هذا الأمر لم يحجب سلامتها وفصاحتها اللغوية, وهي تؤكد على ضرورة الاهتمام «بنجمة» فقد لاحظت انطواءها وخوفها من مواجهة الموقف.) ص 12
وهكذا نكون قد حثثنا خطانا لنتعمق في تلك الغابة السردية المتشابكة المظللة التي تمثل النص وهي تنادينا نحوها، وبعد ان تعمقت العلاقة العاطفية بين مريم وعامر، وجرت عدة لقاءات بينهما، يتقدم لخطبتها فيرفض لأسباب قبلية، وتدور الدوائر ويبقى الرابط المتين الذي يزداد قوة بينهما، الأمر الذي حدا بمريم ان تقرر بعدم الانجاب منه، وباءت كل المحاولات معها بالفشل، كي بيت الرحم، دخولها بيوت السحرة والمشعوذين بحجة إخراج الجن منها، ولأن العلاقة بينها وبين زوجها صارت انفعالية ولا تطاق، فقد أحس الجميع بأنها فقدت عقلها، فقرر زوجها إيداعها المصحة العقلية:
(قالا له تهيم على وجهها على غير هدى، تتخلى عن ملابسها، قالوا اكثر من مرة تحاول خنق مولود لأنها لم تلد، وقالوا له تحاول الانتحار، كانت ستشعل النار في الدار، قلت له أنهم يكذبون، لم أفعل، أنا عاقلة قلت له، أنا أستاذة رسم، أحب تلاميذي ومدرستي وأعد مشروعاً بالجامعة، أسألوا أمي تعتمد عليّ، تجرني الممرضات على الارض الخشنة، وأنا أصرخ أستنجد،)ص 31
وهكذا تدخل مريم المصحة العقلية، ومع دخولها ينضم عنصر مهم من عناصر فن صناعة الرواية الى متن هذا النص، هو ادب الرسائل، إلا أن الرسائل في هذا النص لم تأتِ ضمن نسق مسيرة الأحداث، كون مريم تكتب تلك الرسائل الموجهة إلى حبيبها عامر بيد إحدى العاملات في المصحة، والاخيرة تحتفظ بها خوفاً من إثارة المشاكل بينه وبين زوجته، وتظهر تلك الرسائل بعد الانتهاء من أحداث الرواية، كما أشار عامر في متن النص، ولكونها جاءت متأخرة فإن الحيز المخصص لها جاء بشكل عشوائي، حيث تتوقف الأحداث وتدخل الرسالة، بعدها يتم مواصلة الاحداث.
لم تكن حكاية مريم وعامر وقصة حبهما وحدها داخل متن النص كما أسلفت، فقد انضمت حكايات أخرى إليه، أهمها حكاية هيما، الذي قدم من نيجيريا إلى سبها ولم يجد له عملاً إلا في تهريب المهجرين عبر الصحراء، وتدور أحداث مهمة ضمن النسق الفني والرؤية الفلسفية التي أعدتها الروائية في المبنى السردي، وكذلك تأثير الحصار الاقتصادي على الشعب الليبي، والحروب الدائرة فيها، والفقراء والمهمشون الذين هم حطب هذه الحروب.
وبينما تسوء حالة مريم النفسية، يحاول عامر أن يزورها، ولم يجد حجة إلا أن يقول أنا اخوها:
(نعم أنا اخوها، وليس لدي تعريف والمكان بعيد كما تعلمون.. حسناً لكنها المرة الأخيرة.. لا بد من تعريفك.. حاضر.. وحضرت في غرفة مجاورة للإدارة.. وتهللت أساريرها.. واندفعت نحوي وعانقتني.. شقيقتي كيف أنت باغتّها.. لم تنتبه المجنونة وتأكد المشرف من هويتي.. من أنها شقيقتي، تركنا وخرج.. وظلت متشبثة بي.. أخرجني عامر لست مجنونة أنت تعلم ذلك، ولم أعد أحتمل المخدر) ص 89 .
ظهرت تفاسير كثيرة لمعنى النص الناقص، والذي اتخذته الروائية عنواناً لروايتها، منها مشروع تخرجها في الجامعية والتي اسمته (النص غير المكتمل) وكذلك ما ورد في الرسالة السادسة التي كتبتها مريم إلى حبيبها عامر حيث تقول فيها:
(أننا عقل لم يكتمل بعد، أنه لدينا أزمة عقل وراء ظاهرة الارتباك هذه، أزمة مردُّها طريقة التفكير الفاقد للمنهجية، لطرق مناهج البحث العلمي، نتخبط في الارتجالية عند كل مشروع، وكأن فضاء تضاريسنا مليء بالأعمدة الخرسانية المتفرقة غير ذات صلة، أكمله أنت يا «عامر» وانتبه لما قيل في نقد العقل لمجتمعنا ستقودك الى ظاهرة (عدم اكتمال النص) أو النص الناقص، القيم لا تتجزأ وهو مبعث قلقي) ص 99 .
ومن خلف جدران المصحة العقلية تتابع مريم الحياة خارجها، فتجده عالماً مختلاً يتخبط بأفكاره، حروب، وجوع، وفقر، وعطش، ومياه تلتهم القوارب الهاربة، وتحس أن الصورة للعالم في الخارج قد توضحت إليها، فبين العقل والجنون تعيش الصراعات وتعيش الالم، وفي الرسالة الثانية عشر تذكر مريم في آخر سطر من سطورها:
(أظنني النص الذي لم يكتمل!) ص 193
وتحاول للمرة الثانية الهرب من المصحة العقلية، بعد أن استطاعت أن تتدارك الأخطاء السابقة في عملية الهرب، وتنجح في مهمتها:
(غادرت الحديقة على غير هدى وفي آخر الشارع الطويل وقفت على كشك جرائد صادفني، فضولاً ليس أكثر، إنه الجنون يا «عامر».. وكانت صورتي تتصدر أول جريدة على واجهة الكشك..(مجنونة تغادر المشفى)..(مجنونة مصابة تهرب من المصحة)..(امرأة مختلة في شوارع العاصمة)..شاب يتصفح.. وفتاة اشترت الصحيفة وتشرح للبائع.. الدنيا مقلوبة.. والناس خائفة.. والكل نبّه أطفاله لهذه المجنونة.. وهي تضحك.. وتضحك، جميع الاطفال اليوم لزموا بيوتهم.. الحقيقة لم أتمالك نفسي من الضحك..) ص 311
ولأن أمر هروبها منشور في الصحف مع صورتها فقد تم القاء القبض عليها وإعادتها، وبعد مضي فترة من الزمن تموت مريم داخل المصحة العقلية، ويدفن معها سر النص الناقص، ويبكيها الجميع وينتشر الحزن وتنكس الاعلام، وتجتاح الوحشة كل النفوس.
وهكذا تنتهي أحداث رواية (النصّ الناقص) للروائية الليبية عائشة الأصفر التي نقلتنا بين العقل والجنون، وبين الجنون والعقل، لنعرف من هو العاقل ومن هو المجنون، وكانت رحلتنا في غابة السرد، محفوفة بالمخاطر، فقد استطاعت ان تقدم نصاً مغايراً فيه الكثير من التأويلات لأنه يفتح نافذة للعقل من أجل التأمل.