الشائع عن مفردة “التخسيس” هو ارتباطها بالوزن الزائد للانسان، نحتاجها ضمن برنامج محدد لمواجهة الترهل وعواقبه الوخيمة على صحة وحيوية الفرد والمجتمع بشكل عام. لكن ما جرى معنا نحن سكان هذه المضارب القديمة، هو ان اجتمعت هذه المفردة (الخسخسة) والجهاز الاكثر أهمية عند البشر (الدماغ)، والذي تعرض الى عملية ضمور شاملة وطويلة، أمتدت لأكثر من الف عام وعام. وهي نفس الحقبة التأريخية التي تعرضت فيها اقدام فتيات أقدم حضارات العالم القديم (الصين) لعمليات قولبة وشد مؤلمة وطويلة كي لايتجاوز طولها الاربع بوصات، استجابة والذائقة الجمالية المشوّهة لذكور تلك الحضارة العريقة. هناك تشوهت اقدام اعداد غير قليلة من الفتيات المنكوبات بقوالب ومعايير أختفت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث وضع النظام الشيوعي حداً لتلك البكائية الطويلة، التي لم يتبق من آثارها سوى الذكريات. أما ما حصل مع أهم خصيصة للبشر (العقل)، من عمليات للقولبة والترويض في هذه التضاريس المنحوسة، فلا يمكن مقارنته مع كل انواع النكبات التي عرفتها سلالات بني آدم على مر العصور، حيث تشهد التطورات والاحداث الاخيرة التي ولجت الى أطوارها الغرائبية شعوب وملل “خير أمة” الى العطب العضال الذي تعرضت اليه هذه الملكة بعد قرون من الركود والضمور والسبات.
ان الموقف البعيد عن المسؤولية والمتخاذل من هذه القضية، والتي اختصرها أحد ابرز الاستثناءات في بداية عصر الانحدار العلمي والمعرفي لهذه المجتمعات، حكيم المَعرَّة أبو العلاء عندما قرع اجراس الخطر لهرولات الاسلاف صوب الغيبوبة العظمى، محذراً من دون جدوى: (لا امام سوى العقل)؛ هو من اوصلنا الى ما نحن عليه اليوم من مِحَنٍ وكوارثَ وهموم مغتربة عن بديهيات الحياة الحديثة، والعيش الذي يليق بعيال الله.
إن هذا الطفح الهائل من شعارات وبيارغ عوالم ما قبل كوبرنيكوس والثورات العلمية والقيمية التي غيرت البشر والحجر؛ يضعنا جميعاً وبغض النظر عما تورم من فواتير الرطانة والازياء، بمواجهة الجيل الجديد من بضائعها المتنافرة وكل ما يتصل بروافد الابداع والخلق والابتكار. لم يعد سراً أمر ارتباط التطور العقلي والمعرفي بمنظومة الحقوق والحريات الحديثة، حيث يرفدان بعضهما البعض بكل مقومات الحيوية والازدهار، والأمثلة على ذلك كثيرة في عالمنا الذي حولته الفتوحات العلمية الى قرية. وبالضد من ذلك هو ما يحصل لدينا نتيجة الهيمنة الطويلة لنظم القهر والاستبداد والحملات الشرسة والهمجية ضد كل من تسول له نفسه الامارة بالقلق والسؤال والمروق عن ثوابت الضمور وقوالب الرسالة الخالدة في خسخسة العقل..
جمال جصاني