قميص القدسية

كما هو حال الشعوب والامم فقد هدهدت عقول وضمائر غير القليل من أهل هذه البلاد المنكوبة، أحلام العيش كباقي سلالات بني آدم التي وصلت لسن التكليف الحضاري، في ظل دولة ومؤسسات وتشريعات تنتصر لحقوقهم المهدورة وكرامتهم وحرياتهم في شتى مجالات الحياة. لاسباب وعلل تم التطرق الى الكثير منها، عجزت شعوبه من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء من الوصول الى تحقيق ذلك، حيث تمكن النظام المباد وعبر وسائل وأساليب لا تخطر ببال الشيطان نفسه، من فرض هيمنته المطلقة على كل تفاصيل الحياة فيها. لا حدود لقائمة الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت طوال أكثر من ربع قرن فيما عرف بـ “جمهورية الخوف” غير ان سحق جلاوزتها لسر قوة العراقيين ومصدر حيويتهم، تعدديتهم السياسية والثقافية وما اختزنته من حقوق وحريات انتزعوها عبر مشوار طويل من الكفاح والايثار؛ يعد أخطر ما جرى في تلك الحقبة من تاريخنا الحديث. ومن يتابع بدقة ومسؤولية ما يجري في مشهد ما بعد زوال ذلك النظام التوتاليتاري، سيكتشف حجم تأثير ذلك الارث الذي حفرته تلك المرحلة فيما يجري حالياً، حيث ينطبق على الكثيرين ممن تصدر المشهد قول افلاطون المعروف: (اذا أمطرت السماء حرية لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات).
لم يمر وقت طويل حتى انطلق برنامج واسع ومنظم لافراغ القرارات والتشريعات والمؤسسات الجديدة لما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، من محتواها التحرري والحضاري تحت شتى الذرائع والحجج، وقد تصدرت ذلك ما خصصناه لهذا المقال أي؛ التغول الخرافي لموضوع القدسية. ولن نجافي الموضوعية والانصاف ان قلنا ان الكثير من الذين صارت “القدسية والخطوط الحمر” ملاذاً لهم، يختزن حنيناً جارفاً لما كان عليه الحال زمن غير المأسوف عليه “مجلس قيادة الثورة” حيث لا ضرورة لوجود بدعة “فصل واستقلال السلطات”. المقدس الحقيقي لا يحتاج لمواهب وحماسة وفزعات الفاسدين واللصوص للدفاع عنه، وعالم اليوم بما ارتقى اليه من مستويات قيمية وحضارية واخلاقية يقترن بفتوحاته العلمية والقيمية والتي وضعت حداً لتغول سلطة ما على حساب باقي السلطات، وقد مثلت باكورة ذلك وضع سدنة التقديس ومحاكم تفتيشهم البغيضة في مكانهم الصحيح.
لا يحتاج المتابع الحصيف الى كثير من الجهد، كي يكتشف علل تغول “القدسية” في مجتمع ودولة تصدرت قائمة الدول الاكثر فشلا وفساداً في تقارير منظمة الشفافية الدولية، ولا الى الوشائج الوثيقة التي تربط بينهما، وبنحو خاص في مجال سعي المجتمع ومشروع الدولة الفتية لاسترداد عافيتهما وحقوق رعاياهما من دون تمييز على اساس الرطانة والاعتقادات والازياء. ومن سوء حظ العراقيين انهم وبالرغم من مرور وقت طويل على “التغيير” لم يحظوا بجهة او مؤسسة مؤثرة تقف الى جانب قضية استرداد حقوقهم المهدورة، وعلى رأسها قدرتهم على ممارسة حقهم الدستوري في ممارسة حرية التعبير، واسترداد ما عرف عنهم في مجال الفضول المعرفي والابداع، في طرح الأسئلة (كما أشار الى ذلك الجاحظ قبل أكثر من ألف عام) التي لا يطيقها المستبدون واللصوص وعسس الركود. ما خلا بعض المحاولات والجهود الفردية، يفتقر المشهد الحالي ولا سيما منه الثقافي والاعلامي من اية مواقف وتوجهات جدية ومسؤولة لمواجهة مثل هذه الظواهر المرضية، والتي تحظى كما اشرنا بتواطؤ سافر من محظوظي حقبة الفتح الديمقراطي المبين وقططه السمان…

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة