ثمة مهن ، لايمكن ان تنقرض ، لانها ترتبط بوجود الإنسان ، ومنها على سبيل المثال ، مهنة دفن الموتى التي يكنى صاحبها بـ»الدفّان» !، فهذه المهنة ، لن تنقرض ، فالبشر يتكاثرون ، ومن ثم يموتون ، وهنا لابد من وجود مَن يقوم بمهمة دفن الذين يموتون ، وليس بالضرورة ان تنحصر قضية الدفن بـ»الدفانة» المحترفين ، فقد تتولى العملية ، جهات اخرى قد تكون مؤسسات حكومية (الدوائر البلدية) ، او منظمات إنسانية ، او غيرها ، هذا إذا كان المتوفون مجهولي الهوية ، او ليس لديهم من الاقارب من يتولى دفنهم .
ويبدو ان الاطمئنان على بقاء هذه المهنة ، جعل البعض يفكرون باستنباط مهن فرعية ، ترتبط بمهنة الدفن ، وبما اننا ذكرنا ، مهنة الصباغة ، -مع وافر التقدير لمن يمتهن هذه المهنة- ، فأن «البعض» فكر ودبر ، مهنة جديدة ، لم تكن معروفة لدينا ، تلك هي مهنة «صبغ الجثث» !! .. وقد تستغربون مثل هذه المعلومة ، المثيرة ، فمَن يقوم بمثل هذه المهمة ؟! وهل ثمة ألوان محددة او أصباغ معينة يتم استعمالها لصبغ الجثث ؟! ، ثم ، لماذا يصبغون الجثث أصلا ؟!
القضية باختصار ترتبط بواقعنا السياسي ، اذ يحاول بعض الساسة ، الرقص على جثث الموتى ، بعد صبغها بلون معين ، وهذه القضية تشبه الى حد كبير ، عملية وسم المواشي من قبل أصحابها بلون محدد لكي لاتختلط مع مواشي الآخرين !! وهنا بيت القصيد ، فقد تابعنا جميعاً ، قضية الجثث المجهولة التي أعلنت محافظة بابل عن دفنها ، موضحة ان الجثث كانت محفوظة لدى مشافي المحافظة ، تعود لفترات سابقة وتوفي أصحابها بحوادث وظروف مختلفة ومن مناطق المحافظة كافة ، ولكن المشكلة ، ان بعض الساسة ، الذين لاهم لهم سوى اثارة المشكلات واختلاق الأزمات ، بدعوى الدفاع عن حقوق هذا المكون او ذاك ، وقبل ان يتم الإعلان عن تفاصيل وملابسات وفاة هؤلاء الأشخاص ، فقد ملأوا الدنيا ضجيجاً وعويلا ، ولكن مالبثوا ان التزموا الصمت المطبق ، عندما فاجأهم رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي ، ساحباً البساط من تحت ارجلهم ، ليجدوا أنفسهم حفاة ، وهم يدوسون على النار التي اشعلوها ، مبادرة الرئيس الحلبوسي بدعوة وزير الداخلية ومحافظ بابل والقادة المعنيين ، كشفت الحقيقة ، واماطت اللثام عن ملابسات وتداعيات القضية بجميع تفاصيلها ، الأمر الذي اسهم في إطفاء فتنة ، كادت ان تنطلق نيرانها في الجسد العراقي المثخن بالجراحات ، وفي الوقت الذي نبارك مبادرة رئيس السلطة التشريعية في البلاد ، فإن لنا بعض الملاحظات المتصلة باداء الحكومة المحلية في بابل ، ومن هذه الملاحظات ، ان التأخر في اعلان التفاصيل ، ترك فراغاً ، استغله ، ممتهنو ، صبغ الجثث ، وراحوا يمارسون مهنتهم بكل سهولة ويسر ، حتى جاءت مبادرة الحلبوسي ، أما الملاحظة الثانية فانها ترتبط ، بتأخر دفن الجثث لعدة سنوات ، وقد بررت المحافظة ذلك بعدم وجود تخصيصات مالية ، ماجعلها تستعين بإحدى المنظمات الإنسانية ، لإتمام مهمة الدفن ! وهذا التبرير غير مقبول اطلاقاً ، فليس من المعقول ان تعجز محافظة عن دفن ٣١ جثة ، فكم كان يكلفها ذلك ؟!، وكان بامكانها ان تقترض المبلغ من احدى جاراتها المحافظات الأخرى ، او من احدى العتبتين الحسينية او العباسية اللتين لاتبعدان عن بابل سوى ٤٠ كيلو متراً فقط ..كما انني لا اعتقد ان الحكومة الاتحادية ، ستشح بمبلغ بسيط ،لو كانت حكومة بابل طلبت ذلك من مجلس الوزراء ، فهناك مبالغ مخصصة للطوارئ ، والقضايا الإنسانية ، فقد كان حري بالحكومة المحلية ان تسلك كل الطرق المتاحة ، وهي كثيرة لتدبير المبالغ المالية المطلوبة لدفن هذه الجثث ، بدلا من إبقائها طيلة هذه السنين (٢٠١٦-٢٠١٩) ، وهذا التأخير ،المزدوج ، (تأخير الدفن ، وتأخير الإعلان عن التفاصيل) أوجد بيئة خصبة لأصحاب مهنة «صبغ الجثث» !.. ولذلك أقول ، ان ماحدث في بابل ، ينبغي ان يكون درساً واضحاً للآخرين ، لكي لا يسمحوا بتكراره في أي بقعة اخرى من بقاع الوطن ، لكي لانعطي فرصة لصباغي الجثث بممارسة مهنتهم ، فهذه المهنة، يجب ان تزول نهائياً من قاموس حياة العراقيين .
عبدالزهرة محمد الهنداوي