نافذة المساء*

سلام إبراهيم

أصبحتُ وحيداً، غريباً. أكاد أفتقد توازني الهـش، وأدخل مساحات الجنون.
– ما جنيته من ذنبٍ يا ربي؟
أسأل نفسي كل لحظة هذا السؤال. وبعد أن أقلب تجربة عمري أجدني، أكثر من بائس، أبأس من مسكين وكنتِ المسافة الوحيدة التي أنارت ليل أيامي الدامس.
يومي هباء، وأوقاتي خواء.
مع اقتراب الخميس، يتحول شعور اللاجدوى، إلى انشغال جدي، يجعلني أمعن في احتقار نفسي، وما حولي من بشرٍ وموجودات، فابتداءً من المساء سأمكثُ متحجراً على فراشي في الإرسي. أُقبَر حتى مساء الجمعة، موعد مغادرة بنت عمتي وزوجها وطفلهما، الذين يزورون عمتي مرتين في الشهر قادمين من ناحية بعيدة تابعة لمحافظة ديالى. سينامون في الباحة تحت برجي تماماً. المسافة بين فراشهم وموقعي لا تزيد على ستة أمتار. زوجها ـ مدير ناحية ـ ومسؤول حزبي. ستة أمتار تفصلني عن بوابة جهنم. ستة لا غير. سأستعين بروح الحجر القديم كي أعبر ساعات الليل، وبالتحديد ساعات نومهم. ستة أمتار وعشر ساعات ألبس فيها ثوب الحجر وكيانه، ممنوعاً من السعال والعطاس، الشخير وأي صوت. سأحبس أنفاسي. سأختنق برائحة البراز الذي ألفه بأكياسٍ من النايلون أكورها جوار العتبة. سأتوخم في الحر والباب مغلق. ستزكمني رائحة البول الذي أفرغه في قناني عريضة الأعناق. سأضطر إلى التقليل من شرب الماء. سيجف حلقي عندما يصدر مني صوت ما مسموع. سأتجمد مرات وأطل من الكوة كي أعرف رد الفعل، لينبسط مشهد مساء الباحة تحت ناظري، أحتدم غيظاً والرجل يجلس على كرسيٍ وثير حملته عمتي من غرفة الضيوف. يضع ساقاً فوق ساق، وأمامه على المنضدة العريضة أنواع “المزات”، صحون حمص مسلوق، وباقلاء، وسَلَطَات، وشرائح لحمٍ مشوية، وكرزات، وفستق وبندق ولوز. يطلب من عمتي وضع شريط لأم كلثوم. يتمايل بجذعه الأعلى وهو يدندن بخفوت مع ـ فكروني ـ. يرتشف من كأسه، أحترق.. كم بي حاجة أنا، إلى كأس خمرة، لكنها من قائمة الممنوعات الطويلة التي وضعتها مقابل إيوائي. ستظل عمتي تدور بين المطبخ والمنضدة، تغير صحون “المزة” التي تفرغ. تحضّر العشاء. تنتهز لحظة عودتها من المطبخ حيث تكون خلف ظهره، لتختلس نظرةً خاطفة نحو الثقوب الأربعة. من المؤكد أن رعبها يفوق رعبي، وهي تتخيل لحظة عثوره عليّ، أو مجرد شكه بوجود رجل في بيتها. كانت أوقات إنصاته للأغاني أوقاتاً مريحة. أستطيع خلالها التنحنح، السعال الخفيف، البصاق، التبول،.. أفعل كل هذه التفاصيل الفسيولوجية وأم كلثوم توفر لي الغطاء. أفعلها بلذة ليس لها مثيل، فبعد ساعة أو ساعتين ستصبح مستحيلة وأنا أدخل طوري الحجري في المسافة الفاصلة بين منتصف الليل وقيام ضجة النهار. أشعر بالحيف، وصاحب الكرش المخمور، بوجهه المتورد، وبشرته المصقولة اللامعة، وقسماته الجميلة، وصوته الأنثوي الآمر وهو يطلب ما يعنْ له، يسترخي في الباحة، غارقاً في حنو عمتي.. أنهضم، وأحاول إيجاد الأعذار لها. هل تداريه خوفاً على ابنتها التي يضربها أحياناً ضرباً مبرحاً كما أخبَرتهُ يوماً قبل الحرب، أم أنها تبالغ في خدمته والعناية به، وافتعال الأحاديث طوال الوقت الذي يصمت فيه المسجل كي تلهيه وتحرف انتباهه عن موقعي؟!. أتجرد من الأسباب والنتائج، ويتألق في ضجيج المسجل والحديث، صمتها المضني حينما نكون وحدنا في البيت.. في الدنيا.
أين أنتِ في هذه اللحظة؟!.
أين يا حلوتي؟.
أجدني أخمن مكانك بعد ظهر كل خميس،
هل تذهبين مع أهلك لزيارة الأضرحة المقدسة في النجف وكربلاء؟. تحضرني الآن كتلتك الملتهبة وأنا أحضنك جوار شباك الضريح المذّهب عند اشتداد الزحمة. أشعر برجيف ظهرك المنتصب، ليونة قامتك المشدودة خلف العباءة. أهمس لك بموقع اللقاء. أدع الكتلة البشرية تفصلنا. تتملصين من العائلة، وفي طريقنا إلى الغرفة التي استأجرتها في الفندق، كما يفعل كل عشاق مدن الفرات الأوسط. يبتدئ اللمس، وأصابعي تندس من كم العباءة إلى ما تحتها، تصعد وتنزل على جنبك الساخن، على نهدك الرامح الصلب اللدن القريب. تغمضين عينيك، وترمقينني برغبة طافحة، يتقد جسدك، تكادين أن تهوي بين ذراعيّ خلف عمود رواق الفندق. أسحب ذراعي، تتماسكين وتعدلين وضع عباءتك. وفي الغرفة المعتمة القذرة نمتلك الدنيا كلها بسمائها وأرضها. نغور في تيه خدرٍ سنتذوق طعمه إلى آخر العمر.
ها أنذا ألملم شتاتي المبعثر في الأغبرة والعتمة. أرتكز على ذراعي ساحباً جسدي، أرخي ظهري إلى الجدار، ألبث متعاجزاً قبل أن أتمسك بالجدارين المتقابلين وأنهض. أخطو نحو الباب بقامة محنية تتفادى الاصطدام بالسقف، أهبط على السلالم الحجرية الضيقة المتآكلة الآجر، عند آخر درجة أنكسر في انحناء شديد. ألج من تحت منضدة مبردة الهواء. أعب أنفاساً عميقة من هواء الباحة الخالية في سكون العصر. أعبُ نافثاً الأغبرة المثقلة نَفَسي. أشعر بالباحة تتمايل، القبة الزجاجية تدور وتتكور متدحرجة، الحيطان تتباعد بغرفها وأبوابها ومشاكيها ونوافذها، والبلاط ينحدر تحت قدمي. أتمسك بمساند المنضدة دافعاً ظهري نحو الزاوية القائمة بين كتلة المبردة والحائط. قدماي شرعتا بالانزلاق على حافة آخر بلاطة مالت. تشبثتُ محملقاً في الانحدار المريع، بالقبة المتدحرجة نحو قاعه. لففت ذراعيّ حول مسند المبردة الخشبي المتين. التحمت بالخشب مطبقاً أجفاني. ضمختني رائحته، فوجدتني ألوذُ خلف أكداس الخشب بدكان أبي القديم، أستنشق رائحة نشارته المنتشرة من لوح خشب الصاج، التي ينشرها أبي بمنشارٍ يدوي. أختبئ ساعات منصتاً لضجيج الشارع، لصوت المنشار الوالغ بأحشاء الشجر الميت. أتتبع عروق الخشب في الظلال الكثيفة، العروق المشكلة في مساراتها المتشابكة وجوهاً بشرية، أشجاراً، أنهاراً، أقماراً، شموساً، كؤوساً، حراباً، سيوفاً، كائنات تضحك وأخرى متجهمة، وجوه حيوانات خرافية أراها حية تكشر في وجهي، فأهرع راكضاً من مخبئي، أدفن وجهي في قميص أبي، فيترك المنشار ويحضنني مردداً:
ـ “اسم الله بويه.. اسم الله”.
فتتغلغل السكينة إلى نفسي شاماً رائحة جسده المعروق الطيبة. أباعد أجفاني شاعراً بقدميّ تستقران على البلاط الصلب الراسخ. أنفصل عن تدوير المسند. كل شيء بمكانه، الجدران ساكنة والقبة معلقة فوقي، وفضة ظلال العصر، أشياء المشاكي المنحوتة. يصيبني هذا الدوار كلما نزلت من الإرسي. أرتد إلى حضن أبي طفلاً. أرتد إليه في محنتي. أراه وأشمه، أحضنه وأذوب على صدره هو الذي غادر الدنيا وأنا بين ثوار الجبل. أظل أحلم بزيارة قبره في النجف. أحلم.. كيف الخلاص من ورطة الحياة هذه؟. أرمق صفحة السماء الظاهرة خلف قضبان سياج القبة. الغسق يوشك أن يهبط. أحس بالوقت، وما أن أهبط من الإرسي الحالك حيث يكون الشعور بالزمن ضعيفاً أول الأمر، ثم يصير معدوماً مع طول المكوث، إذ يتكثف إلى عناصره الأولى الضوء والظلام من دون تفاصيل وفوارق وتدرج. الوقت ضيق. يتوجب عليّ إعداد لوازم فترة التحجر والصمت قبل حلول المساء، قناني البول، الخبز، أكياس الغائط، “ترموس” الشاي، دورق ماء وبن مطحون أمضغ مسحوقه الناعم المر كلما تأرجحت على حافة الغفوة. قبيل الصعود الأخير إلى كتلة الظلام المعلقة، أحاول تفريغ مثانتي وأمعائي، والأخيرة غالباً ما تتماسك منقبضةً بشدة، لتنبسط حال قدوم الزائرين، فأتلوى في الحلكة ريثما تستحكم الخمرة بالزوج ويتعالى صوت المسجل، عندها أفرشُ كيسي جوار البـاب. أتسابقُ مع المساء. أكوّم أكياس عدتي على الدرجة الثانية من السلالم. أسحب جسدي المحشور بين ركائز حامل المبردة. أستدير مسرعاً نحو المدخل فالغرفة مطلة نوافذها على الزقاق. أصبح لقدمي دربة لصٍ محترفٍ، ولجسدي القدرة على الانحراف والاستقامة والانحناء والولوج من المنافذ الضيقة والواطئة من دون تخديشٍ للصمت المطبق على الأمكنة التي أحلّ فيها. في الزاوية المنحرفة المعهودة ألوذ. أمدّ بصري خلال زجاج النافذة ومشبكها الصدئ المغبر، ملامساً أجساد المارة المطلية بلون العصر، الذاهبة والقادمة في الامتداد المؤدي إلى سوق المدينة. لإطلالة عصر الخميس مذاقٌ مختلفٌ، تشبه الإطلالة الأخيرة. أرتحل في الوجوه، فيء الحيطان، أرجوان الشمس المنثور على الجدران المقابلة لمكمني، أرتحل في شحوب القسمات لحظة مغادرتها ظلال العصر واغتسالها في فيض السماء الدامي. نسوة يتشحن السواد، رجال يعتمرون العُقل، جنود، صبايا واسعات العيون، حشود من الأطفال.. نهر من البشر يموج تحتي، عشرات المعارف الذين يثيرون المزيد من الشجن. حبيب الأجرب، رياض لفته، حسن شطاوي، ناظم كتان، مجيد حرز، فليح حسن شيخ كاظم، ناظم جاري، وحمود الخياط الذي يا ما سكرنا في دكانه وسط السوق المسقوف آخر الليل. الكل يعتقد أنني مفقود في الجبهة، الكل يتصورني تحت التراب. فكرت طويلاً يا أميرتي، وقلبت الأمر، فوجدت أن لا فرق بين ما يعتقدون وكينونتي الآنية.. لا فرق.. أنا بحكم الميت. أسكن قبري المعتم الذي يشبه من الداخل تجويف تابوت كان يقبر أشياء قديمة، أدراج خشبية منسية في جوفها ملابس زوج عمتي البالية، أزيار خل جدتي المهجورة منذ موتها، صندوق عرسها الخشبي المرصع بالشذر والأحجار الملونة. اختنقت بغبار السنين المندثرة وأنا أنقل هذه الأشياء بمساعدة ـ حسون ـ إلى الباحة بغية التخلص منها. حللت مكانها وانقبرت لا فرق.. الأحبة المارين في نثار الأرجوان والفيء المتوجهين نحو نافذتي والمدبرين، الأحبة المجهولين والمعروفين أكاد أشم رائحتهم.. ألمس قمصانهم.. أكاد.. أكاد… حلم مستحيل.
صرتُ مثل روح يا حبيبتي.. روح غير مرئية غادرت الجسد الفاني، روح هائمة، تدور في العتمات والأمكنة، روح تتحاشى التجسد للأحياء كي لا تثير فزعهم.. تتأملهم من الزوايا والأركان المنسية. صرت روحاً يا روحي تصطلي بحلم الدفء واللحم والآخر والبيت والشارع. وبغتة اخترقني صوتك. اضطربت. توترت. تشنجت أصابعي الممسكة بإطار الشباك الخشبي. أمد بصري. أدوره.. من أين يأتي؟!.. من الشارع أم من أوهام ذاكرتي المحشودة بأحلام أخيلتها؟!. أتكونين خلف النافذة؟.. و.. و.. أسمع نبرتك الفريدة، واضحة قريبة هذه المرة.. وأنت تنادين وتمازحين بنتاً جميلة تقف ضاحكةً بمواجهة موضعي. أقفز إلى الجهة الأخرى، أرمي بصري من الزاوية المقابلة. لا أرى شيئاً. ثمة غشاوة انسدلت على عينيّ، مضافة إلى غشاوة الأتربة المتراكمة على مشبك “السيم” الصدئ. أصبح من العسير تحديد ملامح الوجوه في ضوء الغروب. أفرك عينيّ متخلصاً من الغشاوة البيضاء. أعاود الحملقة. اقتحمني صوتك هذه المرة قوياً.. قريباً، مباشرة خلف النافذة. أشب على أصابع قدميّ. أميل مجازفاً بالاقتراب من زجاج النافذة. باغتتني قسماتك دانية، لا يفصل بيننا سوى سُمك الزجاج. بخطوك المتأني ووجهك الباسم تدخلين مسافة نافذتي، يباغتني وجه ابننا المدور الجميل، يحدق نحوي ضاحكاً وكأنه يراني. أشبُّ، أتلظى بناري وأنت تستكملين احتلال فضاء النافذة. تستديرين بقامتك الرامحة نحو البنت الواقفة على عتبة بيت مقابل. تبادلينها الكلام.. استديري نحوي يا حلوتي.. أريد أن أراك من هذه المسافة. أريد التحقق من ملامحك التي ضببتها الأحلام والأخيلة. الرغائب والذاكرة. أردتك أن تلتفتي كما صغيرنا مرة واحدة.. ستغيبك الحافة الجارحة.. ها أنت تشرعين بالخروج من فضاء نافذتي، ومن دون وعي وجدتني أضرب عارضة النافذة بقبضةٍ مضمومةٍ مما جعلك تجفلين ملتفتةً صوب عتمة الشباك، ناظرة بعينين مدهوشتين فزعتين. أتشرّبُ ملامحك المضببة، بأغبرة المشبك، والزجاج المغبش بأنفاسي المتلاحقة. لحظة واحدة خلتها دهراً. لحظة أسكرتني، وجدتك فيها أكثر حلاوة وكأنني أراك أول مرة طالعة من مناحي أحلامي. أصحو على فراغ فضاء النافذة. أهرع راجعاً إلى زاويتي المعتادة. أتابعك.. تبتعدين.. ألاحقك.. ستمرين أمام باب البيت.. أركض مثل مجنون نحو المدخل. أزيح ستارة القماش. ألصق عيني بثقب المفتاح. يجيء حفيف العباءة أولاً.. و.. وتقتحمني رائحتكِ العذبة الظالمة المُعذبة. أمد يدي بجنون إلى الأكرة. سأفتح الباب.. سترين وجهي، فتدخلين فوراً.. سأسد الباب. قلتُ لنفسي ذلك في اللحظة البارقة تلك وطرف عباءتك المرفرف في الريح يخفق خشب الباب وفتحة المفتاح وروحي. أتخدر بضوعك الأليف. أستجمع وشل شجاعتي الغاربة كي أستطيع سحب درفة الباب. يملؤني خيال عناقك.. ضم جسد ابننا.. سأشبع بكاءً.. سأبلل رقبتك التلعاء.. سا.. سا.. سس.. سس.. يغرقني سيل حفيفك.. أزحزح كفي القابضة أكرة الباب باغياً سحبها. تعصي متمنعةً والسواد يشغل سماء الثقب ويغيب. تنحل أصابعي وتموت فوق الأكرة. وجسدك المحتشد النابض يتلاشى في شحوب المساء.
فأسقط متكوماً على بلاط المدخل حاضناً الستارة القديمة. أنتحب نحيب مذبوح، وأحدق عبر غلالة الدمع الفائر المنسكب بالمساء الذي احتل الباحة المهجورة بلون ظلامه الشفيف.

* فصل من رواية “الإرســــي” التي صدرت عن دار “الدار” في القاهرة العام 2008.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة