أكرم عطا الله
تفجرت قصة الاحتجاجات التي عمّت وسط إسرائيل من اليهود الأثيوبيين، خلال الأسبوع الماضي. وتسمية يهود هنا بحاجة إلى تدقيق، حيث إن الكثير منهم يعدون أنفسهم مسيحيين. وتفتح هذه الاحتجاجات نقاشاً بشأن أزمة الهوية في إسرائيل، وهو نقاش شارك به بعض المثقفين الإسرائيليين، في محاولة لفهم الهوية في دولة جاءت بمجموعات من البشر من مناطق متعددة في العالم، سحقت هوياتهم الأصلية، خصوصاً المجموعات التي عدت أقل مستوى مثل اليهود العرب، ولم تنشأ هوية جامعة بديلة حتى اللحظة.
يهود الفلاشا، الذين يصل عددهم إلى 150 ألف، يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين، الأولى مجموعة الآباء المهاجرين، والثانية مجموعة الجيل الثاني الذي ولد في إسرائيل، ومنهم الشاب سلمون تيكا الذي قتله شرطي إسرائيلي مستسهلاً فعل ذلك؛ لأن بشرته سوداء، وذلك جزء من اللاوعي الذي ينتاب المجتمع الأبيض في إسرائيل، وقد سبق فعل ذلك مع الشهيد عبد الفتاح الشريف الذي قتله جندي أبيض بدم بارد.
الجيل الأول ليهود الفلاشا واضح أنه ما يزال يفتقد الثقة بقدرته على المساواة ومطالبته بالحقوق، ولا يزال منكسراً وأقل إحساساً بالقوة، وهذا ما عبر عنه والد الأثيوبي القتيل. لكن الجيل الثاني وهو ما يقارب 40 ألف أكثر ثقة وهو من خرج للشارع وأغلق الطرق وحرق السيارات وتحدى الشرطة، ليس فقط لأن مواطناً أسود قتله شرطي بدم بارد، بل لأن النظام الاجتماعي الاقتصادي وحتى السياسي في إسرائيل ما يزال يتعامل باستعلاء مع ذوي البشرة السوداء.
لست شديد التفاؤل بأن التظاهرات التي اجتاحت إسرائيل من قبل السود يمكن أن تشكل مصدر القوة لخصوم إسرائيل، خاصة نحن الفلسطينيين لسببين، الأول أن اليهود الأثيوبيين أقل من أن يشكلوا قوة حقيقية، والثاني قدرة إسرائيل على امتصاص الحركة الشعبية التي عبرت عن معاناة هؤلاء داخل دولة تشكل الفوارق العرقية واحدة من أهم مُركّباتها .وهنا نتحدث عن الأساس الديني الذي قامت عليه والذي يقسم العالم إلى يهود وأغيار، ولا تتوقف المسألة هنا وفي الثقافات الشبيهة عند البعد الديني، بل تستنسخ نفسها إلى أبعد من ذلك لتطال مواطنين يشتبه في ديانتهم أو حتى لا يمارسون الطقوس، وتلك سمة من سمات الثقافة الإثنية.
الأبرز من ذلك، ومن مفارقات التاريخ، أن الحدث نفسه وقع قبل ستة عقود تماماً، وفي مطلع تموز العام 1959 في حيفا التي سكنتها فئتان من اليهود، الفئة الأشكنازية التي أقامت في الحي الراقي أما الفئة السفاردية أو الشرقية ممن جاؤوا بهم من المغرب فسكنوا في وادي الصليب، فقد أقدم شرطي إسرائيلي على إطلاق النار على مواطن مغربي يدعى يعقوب الكريف، وما أن انتشر خبر موته حتى اشتعلت الشوارع وانتشرت الاحتجاجات في كل المناطق التي يقطنها اليهود المغاربة.
شكلت إسرائيل حينها لجنة تحقيق وقررت دمج اليهود الشرقيين أو اليهود العرب، كما يطلق بعض المثقفين الإسرائيليين من أصول عربية عليهم، وجاء قرار تعيين أبو حصيرة من أصل مغربي وزيراً للداخلية، وقليلاً قليلاً يتمكن الشرقيون من أنفسهم ليحدث انقلاب عام 77 والانتخابات وإزاحة الأشكناز من الحكم.
يهود الشرق أصبحوا جزءاً من الدولة إلى الدرجة التي بات يشكو فيها الأشكناز من هيمنة اليهودية الشرقية، خصوصاً عندما تولت ميري ريغيف وزارة الثقافة، في محاولة منها لإعادة الاعتبار للشرقيين. لقد مسحت إسرائيل ثقافتهم إلى الدرجة التي لم يعد يتحدث اللغة العربية سوى 1% من الأجيال الجديدة. كيف تم ذلك؟ علينا أن نراقبه بهدوء وقد يحصل هذا مع يهود الفلاشا بعد موجة الاحتجاج.
أبرز من ناقش الهوية الشرقية هو اليهودي المغربي «سامي شالوم شطريت»، في كتابه الذي نشره عام 2004 عن نضال اليهود الشرقيين في إسرائيل، سامي الذي حاول الإجابة عن سؤال الهوية وهو يراقب عملية السحق الثقافية، قرر الرحيل عن إسرائيل والعيش في نيويورك، وهو من عائلة مغربية، ولد في بلدة قصر السوق بالمغرب، وهو ابن لثقافة عربية تعرض مثل أقرانه لعملية طمس لهويته الأصلية دون أن يجد نفسه في إطار هوية يهودية بدأت بالظهور بصورتها المتخلفة على يد أحزاب دينية مثل «شاس» تسعى لعودة التاج وإعادة إنتاج مجموعة الخرافات الواردة.
قد يحتاج هذا إلى نقاش أوسع حول مستقبل الهوية في الدولة التي تشهد تصاعداً في العمل الاستيطاني وللأحزاب اليمينية، وانكماشاً حد الأفول للثقافة الأشكنازية واختفاء الهوية العربية وبقاءها فقط في الفن والأغاني والتي رسخها على مدى عقود ماضية فنانون من أصول عربية، بل إن الأغنية في إسرائيل ذات طابع شرقي، لكن اختفت الثقافة العربية. إذاً نحن أمام تبدلات في الهوية في إسرائيل ستفضي نظراً للانزياحات القائمة والقادمة إلى يهودية مشوهة.
يمكن أن يتم تأجيل هذا النقاش أو يحال لدراسات أبعد من مقال، لكن غير الممكن هو: كيف تتمكن إسرائيل من استيعاب كل هذا من حركات احتجاجية وثقافات أصلية وأن تسحقها بهدوء شديد. هنا كلمة السر التي يجب أن نستفيد منها نحن العرب الذين فشلنا في استيعاب التنوع وفشلنا في الثبات وفشلنا في التغيير أيضاً.
جريدة الايام