عبد الغني سلامة
في خماسية «مدن الملح» وصف «عبد الرحمن منيف» التحولات والتطورات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع السعودي قبل وبعد ظهور النفط، صاغها بأسلوبه الروائي الشيق، بيد أنه في كتابه «الديمقراطية أولا»، وصف بلغة أكاديمية مدى تأثير النفط على المجتمعات العربية، وخصوصا الخليجية، مؤكداً أنّ تلك المجتمعات تعرضت إلى هزات كبيرة ومتلاحقة لم يكن النفط بعيداً عنها، بل كان في صلب ومركز هذه الهزات، باعتباره مجالاً للصراع من ناحية، وسبباً لتشديد قبضة القوى المسيطرة دولياً ومحلياً من ناحية ثانية، ونتيجة لهذا العامل وغيره فإن البنية الفكرية للمجتمع العربي عامة وللدول النفطية بشكل خاص كانت غير مستقرة، ولا تزال عرضة للتغيير والاضطراب، لأنها مجتمعات لم تغادر عقلية البادية بعد، وبالتالي فإن نظام القيم السائد فيها نظام قبلي، وله طابع التحريم والمنع، كما أن الفكر المسيطر فيها فكر تبريري، يرفض الإبداع والنقد، والمناخ السياسي السائد غير ديمقراطي، إضافة إلى أن العلاقات الاقتصادية (الفرز الطبقي) لم تتبلور بعد.. وهذه الهزات والتغيرات والعلاقات كانت تحدث وتتشكل في إطار عدة مراحل في آن واحد، وبشكل متشابك.
ويوضح منيف بأنّ العلاقات الاجتماعية في البلدان العربية تتحدد على أساس الولاءات القبلية، وتسود فيها ثقافة سلفية قديمة، تعيش على الماضي، وتستغرق فيه، وتعتبره حلاً لمشاكلها الآنية، ونظرة المجتمع فيها للمرأة نظرة دونية تغلفها معتقدات أيديولوجية، وكذلك الحال فيما يتعلق باحترامها للوقت وقيمة العمل.. وهي في داخلها مغلقة ومتزمتة، وبشكلها الظاهر منفتحة على العالم المتمدن. ويعتبر أيضا أن القلق وعدم الرضا والتمرد والانفصال بين الأجيال، والتناقض الكبير والحاد في الاتجاهات من أبرز السمات التي تميز المرحلة. لذلك، وبسبب النفط، بدت تلك البلدان وكأنها بشخصية مزدوجة، حيث تتعايش فيها ثقافتها المحلية إلى جانب شتات من ثقافات متنوعة أغلبها مأخوذ من الغرب، ولكن دون أن يكون لديها قدرة على استيعاب جذور الغرب ومناخاته الفكرية والسياسية وظروف تطوره وصيرورته، ودون القدرة على تكييف هذه الثقافات مع مناخ المنطقة، أو متطلباتها التاريخية وخصوصياتها. وبما أنها أخذت صيغة الإسقاطات الفكرية والاستيراد الجاهز؛ فإنها غير قادرة على أن تكون بديلاً أو شريكاً فعالاً.
ولهذا فإنّ من أهم أسباب تخلف المجتمعات العربية الضياع الفكري، وعدم قدرة النخب المسيطرة على خلق مرتكزات ثابتة ومتفق عليها، وعجزها عن صياغة مجموعة من المبادئ الناظمة للعلاقات، بحيث تراعي المصالح القومية، وتنسجم مع روح الحداثة، وتُبنى على أسس ديمقراطية.
وبالتالي، فإنَّ تأثير النفط لن يقتصر عند هذا المستوى؛ فالبلاد العربية عموماً وبشكل خاص دول النفط ظلت متخلفة وخاضعة ومقلدة للدول المصنعة المتقدمة في المفاهيم والسلوك، هذا التقليد عبارة عن نقل حرفي دون إبداع، ودون مراعاة للوسط الجديد، ولو أضفنا إلى ما تقدم تأثير الأفكار والعادات التي ستتولد نتيجة تعدد الثقافات والأنماط السلوكية الأخرى، وعدم إمكانية التوافق والتكيف معها، وعدم إمكانية استيعاب التكنولوجيا والقيم المستوردة أو السيطرة عليها، فهذا كله سيخلق حالة من الازدواج في التفكير والسلوك، بل ويزعزع أركان المجتمع ويولد أنواعاً من الاغتراب واختلال التوازن، وفي النهاية سيكون الاغتراب إحدى السمات المهمة في المجتمعات العربية، حيث إنها لم تستطع التكيف مع الأفكار والعادات الجديدة الوافدة من المجتمعات الغربية، أو الناتجة عن الواقع الجديد، وستصبح عاجزة عن الاستمرار في العادات والأفكار التي كانت سائدة من قبل، ومن هنا يبدأ المجتمع بالتشقق، فتتمزق الروابط والصلات والأفكار والعادات، ويتعرض إلى الهزات العنيفة، وهذه التغيرات ستأخذ وتيرة متسارعة وغير عادية، ما يزيد من فقدان المجتمع توازنه، ويجعله حائراً شديد الاضطراب.
ويعد منيف أن تدفق الثروة وسهولة الحصول عليها قد أديا إلى خلق فئات اجتماعية عاطلة وطفيلية، وأصبحت القيم السائدة لدى هذه الفئات ترتكز على الثروة والاقتناء والاستهلاك والمظاهر، بغض النظر عن العمل، ولم يقتصر التشويه على ذوي الثروات الطائلة فحسب، بل امتد إلى فئات وقطاعات واسعة؛ فنتيجةً لتدفق الثروة وزيادة الإنفاق الحكومي في مشاريع غير إنتاجية زادت القوة الشرائية، وتضخم الجهاز البيروقراطي (بطالة مقنعة)، وأخذت الحكومات تقدم المعونات والمزايا، والتي غالباً ما تكون لأشخاص لا يحتاجونها، ما يعد شكلاً من أشكال الرشوة غير المباشرة.
من ناحية ثانية، فإن الدول النفطية قد ركزت مواطنيها في الوظائف الإدارية غير المنتجة، واستقدمت بدلا منهم عمالة وافدة للإنتاج، استفادت منها بنحو كبير، لكنها بذلك منعت نشوء وتكون طبقة عاملة حقيقية، تستطيع أن تبلور مصالحها وتدافع عنها وتنتظم على أساس طبقي، وبالتالي تفرز حزبها التاريخي العمّالي، أو حتى نقابات فاعلة، لأن هؤلاء العمال سيبقون مقيدين بقوانين الإقامة، ولهذا السبب وزيادة في التدابير الاحتياطية، لجأت الحكومات النفطية إلى استيراد عمالة أجنبية من خارج المنطقة العربية. كما امتد أثر النفط إلى الزراعة؛ حيث انتقلت العمالة الزراعية إلى العمل في مرافق النفط والإعمال المساندة له، كما تغيرت العلاقات التقليدية بين المواطنين والموارد الاقتصادية، بسبب ظهور فرص عمل لم تكن معروفة سابقا، كالوظائف «المريحة»، بدلا من المهن السابقة «المتعبة»، ونظام كفالة الوافدين العرب والأجانب.
على الصعيد الاجتماعي، أحدث النفط تغييرا كبيرا في بنية وثقافة المجتمع الخليجي، حيث كان المجتمع الخليجي قبل ظهور النفط يعتمد على مشاركة المرأة في العملية الإنتاجية، وبعد ظهوره تغيرت طبيعة الإنتاج، ولم تعد حاجة لعمل المرأة، فتعمقت الثقافة الذكورية أكثر.
ومن ناحية أخرى، استطاع البترودولار شراء بعض الأقلام والمثقفين وتوظيف عقولهم بما يخدم مصالحه، واستطاع أيضاً تدجين الخطاب الديني، وتوظيفه، وتأسيس ما يسمى «الإسلام الأميركي»، وهو الخطاب الحامي لمصالحهم، المبرر لسلوكهم، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك تبرير البعض لحرب أفغانستان واحتلال العراق، وبطبيعة الحال سيوظف البترودولار هذا الخطاب لتمرير سياساته وتكميم الأفواه المعارضة.
لذلك، ونتيجة لهذه التشوهات، ولعدم الارتكاز على مقومات حضارية راسخة، وبسبب تغييب الدور الجماهيري والقوى العاملة، وبسبب الفساد، ولأسباب أخرى.. فإن الأزمات الاقتصادية العالمية الأخيرة ضربت بقوة بنية المجتمعات الخليجية، وأضرت باقتصادها.
جريدة الايام