رفضٌ متوقّع سلفاً

زها حسن

يُظهر العداء الأميركي للفلسطينيين أن إدارة ترامب لا تريد منهم إلا أن يقولوا «لا» لخطتها حول السلام في الشرق الأوسط.
في 15 أيار/مايو، أحيا الفلسطينيون ذكرى حدثين: الأول ذكرى النكبة، التي تستذكر التهجير القسري لأكثر من ثلاثة أرباع السكان الفلسطينيين من ديارهم في العام 1948. والثاني، افتتاح السفارة الأميركية في القدس العام الماضي، ما أدّى إلى القتل غير القانوني لـ59 فلسطينياً برصاص القنص الإسرائيلي في غزة خلال يوم واحد.
مع أن هذين الحدثين يُعدان من المراحل السوداوية في تاريخ الفلسطينيين، سيُواجهون على الأرجح تحدّياً أكبر في غضون الأسابيع المقبلة، بعد أن تكشف إدارة ترامب النقاب عن خطتها للسلام في الشرق الأوسط. الشائعات لا تنضب بشأن مضامين هذه الخطة: فقد نشرت صحيفة إسرائيلية يملكها كبير المتبرّعين لحملة ترامب، شيلدون أديلسون، بنوداً مسرّبة من وثيقة الخطة بحسب قولها، تشرح بالتفاصيل كيف تعتزم الولايات المتحدة إقامة كيان يُدعى «فلسطين الجديدة»، من شأنه أن يُضفي طابعاً رسمياً على الوضع القائم راهناً، ويؤكّد كل المخاوف التي انتابت الفلسطينيين حيال الخطة الأميركية.
كذلك، افتتح بعض الأعضاء السابقين في الجهاز الأمني الإسرائيلي موقعاً إلكترونياً يعرض شريط فيديو يشرح تفاصيل خطة أخرى تحمل اسم «حل الدولة الجديدة»، وتنصّ على إقامة دويلة في غزة وجزء من سيناء. تحمل هذه الفكرة بعض أوجه شبه مع الاقتراح الذي قدّمه كبير مستشاري الرئيس الأميركي جاريد كوشنر إلى الدبلوماسيين خلال اجتماع عُقد في آذار/مارس 2018 في البيت الأبيض لمناقشة الحلول للأزمة الإنسانية في غزة.
وفقاً لكوشنر، أبرز مهندسي خطة السلام، من غير المجدي التحدّث عن سيادة فلسطينية عند مناقشة الخطة، لكنه وعد الفلسطينيين، إذا ما تعاونوا مع المبادرة، بحياة أفضل وبمزيدٍ من الفرص الاقتصادية، مع ضمانات من المجتمع الدولي.
على الرغم من هذه المعلومات التي أماط عنها اللثام أعضاء من الإدارة الأميركية، ومن التسريبات الإعلامية مجهولة المصدر، يوجّه معظم الفلسطينيين أنظارهم إلى مسائل أخرى. ففي غزة، تقف حماس وإسرائيل على شفير مواجهة شاملة جديدة، مع أنهما توصّلا مؤخّراً إلى اتفاق وقف إطلاق النار. وقد حذّر المنسّق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف من أن هذه ربما تكون «الفرصة الأخيرة» لتفادي اندلاع حرب شاملة في القطاع.
في غضون ذلك، أشارت منظمة الأمم المتحدة إلى أن نقص التمويل المطلوب لتوفير العلاجات الطبية الضرورية في غزة، قد يفضي ربما إلى إجراء عمليات بتر أعضاء لحوالي 1700 من أصل 7000 فلسطيني أُصيبوا برصاص القوات الإسرائيلية خلال المظاهرات الشعبية التي شهدها القطاع العام الفائت. كذلك، ستتوقّف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) عن تقديم المعونات الغذائية لمليون من سكان غزة الذين يبلغ عددهم مليوني نسمة، في حال لم يوفّر المانحون تمويلاً قدره 60 مليون دولار إضافية بحلول الشهر المقبل.
تجاوز معدل البطالة 50 في المئة في القطاع المُفقر نتيجة الحصار الذي دام 12 عاماً، والذي تعده الأمم المتحدة والخبراء القانونيون احتلالاً عسكرياً مستمراً، وذلك بسبب السيطرة المتواصلة لإسرائيل على المنافذ البرية والبحرية والجوية وسجلات النفوس في غزة. لذا، تُعتبر المساعدات التي تقدّمها الأونروا للأسر بالغة الأهمية.
لا تبدو الأمور في الضفة الغربية أفضل بكثير. فالسلطة الفلسطينية تُواجه الخنق المالي، إذ إن وقف المساعدات الاقتصادية الأميركية، ورفض السلطة قبول الإيرادات الضريبية التي تجمعها إسرائيل بالنيابة عنها طالما أن إسرائيل تحتفظ بجزء من هذه الأموال، يعنيان أن الخزينة الفلسطينية ستنضب بحلول الصيف. وفي هذا السياق، ذُكر أن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق غادي أيزنكوت أبلغ الممثل الخاص لترامب للمفاوضات الدولية، جيسون غرينبلات، أنه ينبغي التأنّي عند إعلان الخطة، إذ إنها ستشعل دبما ردود فعل عنيفة في أوساط الفلسطينيين قد تحتاج إسرائيل إلى سنوات عدّة لإخمادها.
إذا ما أراد كوشنر وفريق الرئيس دونالد ترامب المعني بشؤون السلام في الشرق الأوسط أن يدرس الفلسطينيون خطة السلام ويتفاعلوا معها، كان من المنطقي القول إنهم يحاولون بالفعل تحضير بيئة مؤاتية لذلك. لكن من الصعب أن نصدّق أن واشنطن جادّة في التعامل مع الفلسطينيين، وبخاصة بعد تغريدات غرينبلات عبر تويتر التي توجّه أصابع الاتهام دوماً إلى القادة الفلسطينيين من دون توجيه أي انتقاد إلى إسرائيل، أو مقابلات كوشنر المشفّرة التي يتجنّب فيها الحديث عن الوضع القانوني الذي سيتمتع به الفلسطينيون في «لادَوْلتهم» المستقبلية، أو خطابات السفير الأميركي ديفيد فريدمان الأشبه بالمواعظ التي يتحدّث فيها عن قَدَر إسرائيل في التوراة والدور الذي لعبه هو وإدارة ترامب في تحقيق مشيئة الله. في الواقع، يبدو وكأن فريق ترامب يتعمّد دفع الفلسطينيين إلى رفض الخطة حتى قبل الإعلان عنها.
أضف إلى كل هذا إقفال المكتب التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن العاصمة، ورفض منح تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة لمفاوِضة السلام الفلسطينية السابقة حنان عشراوي. وهنا تصبح الأمور واضحة للغاية، إذ إن قبول الفلسطينيين ليس إطلاقاً جزءاً من الخطة، بل رفضهم هو المتوقّع. بعبارة أخرى، إذا خسر الفلسطينيون كل شيء -القدس، وعودة اللاجئين، والخط الأخضر للعام 1967، والأمن المالي والمادي، والاعتراف السياسي بقيادتهم – فلن يهتمّوا بالاطّلاع على أي خطة سلام أميركية. وستكون الرسالة قد وصلتهم بنحو واضح للغاية، ومفادها أن الشمس قد غابت في الأفق السياسي الذي كانوا يتفاوضون حوله طيلة السنوات الـ 28 الماضية.
من شأن «الرفض» الفلسطيني للخطة الأميركية أن يسمح لإسرائيل بأن تبدو وكأنها تتصرّف بشهامة عند «قبولها» الخطة، فيما هي ماضية في توسيع نطاق القانون الإسرائيلي ليشمل معظم مناطق الضفة الغربية. من الممكن أن تكون الولايات المتحدة جاهزة للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية إذا حان الوقت المناسب لذلك، ربما عندما تبرز الحاجة إلى تعبئة قاعدة الإنجيليين المؤيدين لترامب وكبار المانحين الموالين لإسرائيل مع اقتراب موعد انتخابات العام 2020.
أخيراً، يبرز السؤال: ما الذي يتعيّن على الفلسطينيين القيام به بدلاً من رفض الخطة؟ ربما عليهم الانتظار قليلاً، وإفساح المجال أمام الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية للتعبير عن موقفها أولاً، مع الإشارة على نحو مناسب إلى قرارات مجلس الأمن والقانون الإنساني الدولي ومعاهدات حقوق الإنسان. عندئذٍ، ستفشل الخطة وستنكشف المهزلة التي مورست منذ البداية. يمكن للفلسطينيين بعد ذلك العودة إلى القيام بما نجحوا به لأكثر من سبعة عقود ألا وهو: المقاومة والحصول على الدعم الدولي المطلوب للتوصّل إلى حل للنزاع يحترم كرامتهم الإنسانية.

كارنيغي للشرق الاوسط

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة