روبرت ساتلوف
إنّ أي شخص على معرفة بالشرق الأوسط يدرك أن التشابه بين عملية السلام والصفقات العقارية في نيويورك ينهار بسرعة. وإذا كان الماضي مقدّمة لما سيحصل، فإن معظم الفلسطينيين -وبالتأكيد قادتهم -يفضلون الانتظار إلى أن يُنهي المطوّرون [أعمالهم] بدلاً من قبول عرض منخفض القيمة؛ ففي نهاية المطاف رفضوا عروضاً أكثر إغراءاً من قبل، وهذا ما قصده أبا إيبان بقوله المتهكم إنهم «لا يفوتون فرصة لتفويت فرصة». وفي النهاية، يعلم الفلسطينيون أنهم يملكون رصيداً قيماً جداً يقدمونه لإسرائيل -القبول النفسي والسياسي -وهم واثقون من أنّ الإسرائيليين سيقدّمون في النهاية أكثر مما تتوخاه «خطة كوشنر» على ما يبدو، من أجل التوصل إلى حل نهائي لصراعهم المستمر منذ قرن.
وعلاوة على ذلك، وعلى عكس الصفقة العقارية التي يحصل فيها أحد الطرفين على العقار والطرف الآخر على النقود، يبدأ اتفاق السلام في الشرق الأوسط وينتهي مع الطرفين كجارين، عالقين مع بعضهما البعض ويتشاركان منزلاً مزدوجاً واحداً إلى الأبد. وبينما تقدّم نيويورك إمكانيات لا حدود لها، حيث أنّ هناك دائماً قطعة أرض أخرى يمكن تطويرها، ومبنى آخر يمكن شراؤه، ومجمع سكني آخر يتحوّل إلى شقق فاخرة، إلاّ أنه لا يوجد سوى قطعة أرض واحدة على المحك في الساحة الإسرائيلية-الفلسطينية، وليس لدى الفلسطينيين أي مكان آخر للذهاب إليه. وهذا لا يعني أن على إسرائيل قبول المطالب الفلسطينية 100 بالمئة، بل يعني أن الصراع لن ينتهي أبداً ما لم يعتقد كل طرف أن الطرف الآخر قد بذل مجهوداً حسن النية للتوفيق بين احتياجاته وبين رغبات الطرف الآخر – وهو وضع لا يجري العمل به في الظروف الحالية.
ويبدو أنّ الحقيقة الأساسية المفقودة من صيغة كوشنر هي أن الإسرائيليين والفلسطينيين لا يبدأون من الصفر. فقد مرّ 25 عاماً على علاقتهما التعاقدية الخاصة المتجسّدة في اتفاقية «أوسلو»، وعلى الرغم من فترات الصراع والتوتر، لم يعارض أيّ من الطرفين الوضع الرّاهن لدرجة أنه قرر تغييره. وبالفعل، ورغم كل أخطائها، تطوّرت السّلطة الفلسطينيّة خلال هذه الفترة إلى ما يشبه دولة عربية طبيعية -أقل فساداً، واختلالاً، وعنفاً، وسلطوية من بعض الدول؛ وأكثر فساداً، واختلالاً، وعنفاً، وسلطوية من البعض الآخر. ومنذ قمع اسرائيل للانتفاضة الثّانية قبل 15 عاماً، وخسارة غزة لصالح متطرفي «حماس» بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، حافظت السلطة الفلسطينية ما بعد عرفات، بقيادة محمود عباس، بشكل أو بشكل آخر على السلام مع اسرائيل، كما حافظت على التعاون الأمني مع الجيش الإسرائيلي، وضمنت عدم وقوع الضفة الغربية في أيدي المتطرفين الإسلاميّين. إنّ أي اقتراح أميركي للسلام يجب أن يبدأ بكيفية البناء على الأساسات الحالية، مع بذل جهد شاق لضمان عدم القيام بأي شيء للمخاطرة بالوضع الهشّ الراهن. أمّا ملاحظات كوشنير فقد افتقرت لأيّ تقدير لهذا الواقع الكئيب؛ وفي مرحلة من مراحل النقاش، استَخدم استعارة من مجال الطبّ ليؤكّد بجرأة أن خطتّه «ستعالج المرض» الذي يؤجّج الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ولكن التحدّي الحقيقي الذي سيواجهه هو ضمان عدم انتهاك اقتراحه لقَسَم بُقراط الدّاعي إلى عدم الأذى.
وهذه اللامبالاة بالآثار المحتملة للفشل هي السبب وراء اعتقادي أن خطته تشكل خطراً على المصالح الأميركيّة وأنّه لأمر متهور أن تحاول الإدارة الأميركية حتى تجربتها. وفي حين يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة بالتأكيد لتقديم أفكارها الخاصة لمساعدة الطرفين على سد الفجوة النهائية في المفاوضات -تماماً كما فعل جيمي كارتر في «كامب ديفيد» عام 1979، بعد أن قضى كلّ من مناحيم بيغن وأنور السّادات وفرقهم 17 شهراً من المساومة المكثفة -تبقى اليوم الهوة بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين أوسع من أيّ صيغة يمكن تصوّرها أو اعتمادها لسدّها. ومن هذا المنطلق، لا أهميّة تذكر للتفاصيل التي يستعد كلّ من كوشنر وشركائه إلى وضعها على طاولة النقاش بسبب انعدام التداخل المحتمل بين أكثر ما يمكن لإسرائيل تقديمه وأقل ما تستعد فلسطين لقبوله (والعكس بالعكس). فبذلْ قصارى الجهد لحل [هذه المشكلة] -وهذا هو الأساس الذي وكّل به ترامب كوشنر- يبقى أمراً غير محبذ، بل غير مسؤول.
وحتى لو كان الفشل هو «الرهان على الربح الذكي»، فما يزال هناك سبب آخر يدفع أصدقاء إسرائيل – بمن فيهم أصدقاء الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة – إلى التفكير مرتين قبل أن يحثوا الرئيس ترامب على متابعة خطّة صهره للسلام بشكل رسمي، وهو: الخطر من أن يؤدي الفشل إلى نزع الشرعيّة عن أفضل أفكار كوشنر. وفي الواقع، قد يعتقد كوشنر أن خطته ستبقى نقطة مرجعيّة جديدة للمفاوضات المستقبليّة حتى لو فشلت في تحقيق السلام بشكل انطلاقة كبرى، إلا أنّه من المحتمل أن يقوم خلفاء ترامب برمي تلك الأفكار في المستنقع الدبلوماسي، حتى لو كانت أفكاراً قويّة وجديرة وقيّمة. وبالنظر إلى التحزّب السياسي القبلي العميق في الولايات المتحدة، فليس من الصعب تخيّل إدارة مستقبلية – ديمقراطية على وجه الخصوص – ترفض إعادة النظر في مقترحات بشأن قضايا مثل الترتيبات الأمنيّة، وإعادة توطين اللّاجئين، والإصلاح السياسي الفلسطيني، والتنمية الاقتصادية الإقليمية إذا ما كانت تحمل ختم ترامب. وبما أنّ فريق كوشنر يتعامل مع هذه القضايا بعطف عميق مع إسرائيل، فمن المحتمل أن يضر ذلك بالأفكار التي تبدو صديقة للدولة اليهوديّة بنحو خاص. ولهذا السبب آمل أن يعود نتنياهو إلى رشده ويفعل ما في وسعه لإفشال «صفقة القرن» قبل أن تصبح سياسة أمريكية رسمية.
ومن بين جميع الشخصيات في هذه الكوميديا التراجيدية الناشئة، لا يُعتبر كوشنر-الذي يبدو جاداً في رغبته في صياغة خطة تلبي رغبة والد زوجته في أن يكون صانع السلام في الشرق الأوسط -أكثر الأشخاص إثارة للحيرة. وهو الأمر بالنسبة لمحمود عبّاس، الذي يبدو أنه يؤدي دوره من دون أن يحيد عن الخط، مفضلاً السير على الطريق المُتعِب المتمثل في التماس قرارات الأمم المتحدة التي لا معنى لها والتّصفيق في العواصم الأوروبية – (ولو كان لعبّاس خيال السادات وعزيمته فقط، لكان سيدرك أن أفضل طريقة لنسف الخطّة الأمريكيّة التي تهدد مصالحه هي الاقتراح بجرأة إجراء محادثات مباشرة مع إسرائيل). وفي المقابل، فإن أكثر الشخصيات حيرة هي نتنياهو. إنّ طول فترة حكم نتنياهو، الذي سيصبح قريباً صاحب أطول خدمة كرئيس وزراء، يعود لمزيج من المهارة السياسيّة الصارمة وكرهه الفطري للمخاطرة. فلا يمكن مقارنة أيّ زعيم ديمقراطي في عصرنا الحالي بنتنياهو، من حيث موهبته وحنكته الطبيعية في معرفة كيفية الفوز بالانتخابات، حتى لو كان النصر ينطوي على المرور القريب بنحو خطير بجانب الحافة السياسية والقانونية والأخلاقية. ولم يسجّل أي قائد على الساحة العالمية اليوم النجاح الذي حقّقه نتنياهو في الجمع بين الدبلوماسيّة الجريئة والإبداعية والاستخدام المقيّد والحكيم للقوة العسكرية لتحسين الوضع الاستراتيجي لبلاده.
وفي ظلّ الظروف الاعتيادية، فإن آخر ما يريده نتنياهو هو قيام الرئيس الأميركي باقتراح خطة مفصّلة للحل الدائم للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. فهو الذي يجيد التدرجية والدبلوماسية التدريجية التي تختبر كل من النوايا الحقيقية للطرف الآخر والمرونة السياسية لمؤيديه الأساسيين، كان محقاً في الابتعاد عن «الأفكار الأمريكية» الكبرى بشأن ما هو الأفضل لإسرائيل.
إذاً، لماذا يبدو نتنياهو متفائلاً بشأن خطة السلام المقبلة؟ ولماذا يبدو وكأنّه على استعداد لإضفاء الشرعية على سلسلة خطيرة من الحلول التي تقترحها الولايات المتحدة التي تدعي بأنها على معرفة بكل شيء، ولماذا يبدو أيضاً وكأنّه يرحّب، بل حتى يشجّع ترامب على اقتراح كان نتنياهو نفسه قد عارضه منذ فترة طويلة؟
هناك العديد من التفسيرات المحتملة. فبعد قرارات ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وإفشال الصفقة النوويّة الإيرانية المقتة، فضلاً عن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان، ربما ينظر نتنياهو إلى رئاسة ترامب على أنها فرصة العمر لتحويل ميل الإدارة الأميركية الموالي لإسرائيل إلى سياسة رسمية للحكومة الأميركية. وقد يكون نتنياهو واثقاً من احتماليّة اخفاق عباس كقائد، وأن الأخطاء الفلسطينية ستسمح لإسرائيل بضم أجزاء رئيسية من أراضي الضّفة الغربيّة من دون إثارة أي غضب في واشنطن أو معارضة كبيرة في العالم العربي. وربما يكون نتنياهو مثقلاً جداً بمشكلاته القانونية الخاصة، بحيث أصبح ينظُر إلى «صفقة القرن» كحزام النجاة السياسي. وأياً كان السبب المنطقي، آمل أن يفوز «بنيامين المفكر الاستراتيجي» على «بنيامين المفكر التكتيكي السياسي»، وأن يستخدم أي أدوات متاحة تحت تصرّفه لإحباط «خطّة كوشنر» خلال الأسابيع القليلة المتبقيّة قبل أن يُعلن عنها ترامب بإسمه. وقد يتطلب الأمر نداءً مباشراً إلى الرئيس الأمريكي، أو حتّى حشد الدعم من شخص يحترمه الرئيس – كالمانح الجمهوري البارز شيلدون أدلسون أو [السيناتور الجمهوري] ليندسي جراهام الذي يهمس بأذن ترامب – لتوجيه النداء بالنيابة عنه. أمّا بالنسبة لإسرائيل وأصدقائها، فتظل النقطة الأساسية على الشكل التالي: إنّ الطريقة الوحيدة لحماية الاستمرارية الطويلة الأجل لأفضل جوانب «خطة كوشنر» هي بإفشال الخطة.
*روبرت ساتلوف: المدير التنفيذي لمعهد واشنطن.
معهد واشنطن