د. يوخنا مرزا الخامس
سنطبق البنيويّة التكوينية على مجموعة الشاعرة (منوّر ملا حسّون) المعـــــنونة بـ (مرافئ ضبابية) الصادرة بطبعتها الثانية في العام (2010) عن وزارة الثقافة في العراق بمناسبة اختيار كركوك عاصمة الثقافة العراقية. وتحوي على (28) قصيدة، وتقع في (113) صفحة. كُلّ القصائد معــنونة إلا قصيدتين اثنتين فقط. وذُيّل الديـــــــوان بفقــرتين بعنوان (قالوا عنها)، والأخر بعنوان (إشارات) تخصّان الشاعرة
الاغتراب في شعر منوّر ملا حسون
الاغتراب بشكل عام هو إحساس الفرد بالغربة تجاه مجتمعه ووطنه، فكأنه يعيش غريبا على الرغم من كونه في بلده ووطنه. وكثيرا ًما يستعمل الماركسيون هذا المصطلح؛ ليؤكّدوا أن الإنسان في المجتمعات يعيش غريباً، ومثل آلة لا حول له ولا قوة؛ لذا نجدهم لا يشعرون بالبناءات الاجتماعية والاقتصادية.
والحق أن الإغتراب يولد التمرّد والقنوط. والتمرد يتمظهر في أشكال مختلفة، ودرجات ومذاهب متباينة، فثمة شعراء يتمرّدون على المعاني والألفاظ، فيحدث (الانزياح) المخالف لكل الأعراف المعجميّة. والتمرّد الآخر هو التمرد على الواقع الذي يعيشه الشاعر ، فيشعر بعدم الانسجام مع ذلك الواقع ، فيتولد لديه إحساس بالوحدة ، وكأنه وحيد في هذا العالم ، ويتكلم بلغة ، والآخرون يتكلمون بلغة أخرى ، فتحدث حالة من عدم الانسجام والملائمة بين ذاته وواقعه تصل إلى درجة ( انتقال الملكية ) كما يقول شاخت [ الاغتراب ص 63 ]، وهنا تبدأ مرحلة الانفصام، وعدم الرغبة في العيش مع الآخر ، فيصيرُ هذا كله إلى تمرّد، فيظهر في أشكال منها: الهجرة / الانتحار / الثورة على الواقع …أما الشاعر فإن تمرّده يتساقط على شِعره، فيظهر جليّاً التمرد على واقعه بمنظار الشّعر ، فيبثّ التمرد في شعره بثّاً وتكون التمظهرات على شكل :هجاء / ذم الزمان / التمرّد على القيم / فضح المسكوت عنه، وغيره ..
أما (القنوط) أو يسمى بـ (النّكوص)، فهو حالة التخلي عن الهجوم على الواقع، وعلى المجتمع، وفي الأدب إما يُؤثِرُ الشاعر السكوت تماما، وإما يكتب عن معاناة الاغتراب برمزية تامة، وإما يبتعد عن واقعه، ليتحدث عن عالم ليست عالمه وأحلاما ليست أحلامه، فيحدث انفصاما بين ما يكتب وبينه.
الإغتراب التمرد القنوط (النكوص)، (الهجوم) (الانسحاب)
ونبدأ الآن تطبيق البنيوية التكوينية على مجموعة الشاعرة منوّر مــــــلا حسون المعنونة بـ (مرافئ ضبابية) الصادرة في العام (2010 م) عن وزارة الثقافة العراقية.
وعند تفكيك بنية أسطر ( منور ملا حسون ) وتحليلها تبين أن تمظهرات الاغتراب ، ولا سيما التمرّد والقنوط ، واضحة بشكل كبير ؛ وكأن الشاعرة تُعطي مبرراً ورخصةً لاغترابها ؛ من خلال استشراق المستقبل ، فلا ترى فيه إلا الضياع والضبابية ؛ لذا قلنا حدث الاغتراب ، وبدأت بعملية رثاء الأوضاع في الحاضر ، وكأنها تحضر مراثياً للمستقبل ، وليس المراثي المتعاهد عليها في ذكر الماضي لما فيه من جمالية ، فهي تبكي على المستقبل وتعرف ما سيؤول إليه ، فهنا حدث الاغتراب – كما قلنا – بين الواقع الحاضر المعاش ، والمستقبل القادم ، لذا أصبح الحزن في قصائد ( منور ملا حسون ) مستمراً ، وهو – أي الحزن – من أهم مصادر الاغتراب في قصائدها .
تقول في قصيدة تحمل عنوان ( ……. ) [ص 48]
ملاكٌ يسكنني!!
يوقظ صمتي،
أندفعُ نحوه بفستان أخضر.
قلبه ببياض السحاب مغسول،
كزنبق ماءٍ عائم
نقيٌّ.. كنقاء الأيام التي…
لم تولد بعد
ولن تولد
نجد في هذه القصيدة نكوصاً عجيباً، فللوهلة الأولى كلّ شيء جميل، وكأننا نعيش في منتجع (أخضر / بياض / زنبق / ماء / نقي)، ثم يتوقف النصّ فجأة، ويأتي الصّمت على شكل ثلاث نقاط ( … ) . ثم يأتي السطر المدمّر ليقول للمنتجع (لم تولد بعد)، و (لم) نفيها توكيدي، لا يحتاج إلى مؤكّد، أي أكدت عدم حصول الأمر في الماضي، ولتكتمل الصورة أُردِف بـ (ولن تولد) و (لن) أيضاً أداة نفي توكيدية للمستقبل، فهنا حدث الاغتراب من نوع الانسحاب (القنوط)، وتصادم كبير بين الماضي والمستقبل، وتلاقيهما في النفي.
وأقل الاغترابات وطأة هو (الانتظار)، والانتظار في ديوان (مرافئ ضبابية) ليس انتظاراً طبيعياً كباقي الانتظارات؛ بل يرادف مفهوم (الصّبر)، خصوصاً أنّ الشاعرة تؤمن إيماناً خالصاً وصادقاً بالله؛ لذا حصل هذا التحوّل من الانتظار إلى (الصبر) بعد تحليل (الانتظار) وتفكيكه، وحسب أيديولوجيات الشاعرة:
إيمان =========== بالله
انتظار ========== صبر
« أجمل الصباحات
لم يتفتّقه فجرٌ بعد..
وأجمل الأيام في انتظارنا
فانتظر!! [ص 70]
الانتظار هو فعل وقتي أما الصبر ففعل مستمرّ، ونتيجته بعيدة المدى. وحدث الإغتراب عندما امتزج الانتظار القريب بالبعيد الذي هو (صبر)، وهذا الامتزاج آثرَ الصمت فولّد قنوطاً وانسحاباً على هذا فالاغتراب كان بفعل الامتزاج هذا.
ومن القنوط أيضا في ديوان (مرافئ ضبابية) هو تحوّل الشاعر نفسه إلى (سجن)، أي يتحوّل وجوده إلى سجن وزنزانة، بل أن الشاعرة يسجن السّجن عنه، تقول الشاعرة:
صدري!!
استحال إلى زنزانة
شوقٍ لا يشيخ،
أما قلبي،
فحارس ذلك الشوق الحزين
دون ملل [ص 70]
هذه الزنزانة حولت الكبت إلى مسجون، ولا تستطيع البوح به، لذا قلنا إن هناك قنوطاً منع التخلص من الكبت المسجون، فاستحال البوح، فما كان مصيره إلا النكوص وانتظار الفرج الذي لم يأت ِ، ولن يأتي.
.. وجاء التواطؤ بين الأشياء المتشابهة والمتماثلة، فتحوّل السّواد أكثر سواداً، والعميُ أكثر عمى، فتعلن الشاعرة هذه المرة التّمرد وليس القنوط، ولكن بأسلوب مختزل في قصيدة تحمل عنوان (اختزال)؛ ليكون العنوان مفتاحاً لكلّ قارئ، تقول: [ص72]
ليلٌ يرتدي السواد
لا فجر في الأفق ينتظره !!
ليل.. بنجوم عمياء يسقيني
لحظاتِه المرة… وكلَّ ما هو أُجاج
وشواطئُ شوقي
حُبلى بأوجاع السّنين
ثم استعمال (لا) النافية للجنس في (لا فجرَ في الأفق ينتظره)، فهذا يعني أنْ لا فجرَ إطلاقاً في الانتظار كون (لا) النافية للجنس تنفي وجودَ أي نوع من الانتظار، وتُعرف بأن استعمال (لا) هذه للتّوكيد بكتب النحو، وهذا يُعضّد ما قلناه أنّ الانتظار في فكر الشاعرة هو (الصبر)، ولاشكّ.
حاولت الشاعرة الهروب من هذا الاغتراب مراراً، لكنّها تجد كل ّ الأماكن ضائعة، وهذا يدل على هجمة الاغتراب وقوّتهِ الذي بلغ شأواً عظيماً، فدمّر جميع الأماكن، وحتى الأزمنة، وصار الاغتراب -على هذا -دوّامة، هذا نلمسه في بنية قصيدة حملت عنوان (مكابرة):
أمتطي طرقا لا تؤدي الى مكان.
أعصرُ… أطرافَ أيامي
بألف سؤال !! [ص 84]
ويتمظهر الاغتراب بديوان (مرافئ ضبابية) أيضا، في (التأجيل)، لأن الشاعرة تأكدت وتيقّنت أن الأحلام لا يمكن أن تتحقق، فتدور الآمال والمشاعر والرجاءات الى الأيام والشهور والسنين القابلة، فتقر مثلاً تأجيلاً الأشواق، وهل الأشواق تتأجل، والتأجيل للأشواق زاد من حدة الاغتراب، وألهبها، تقول الشاعرة: [ص 56]
فكل واحدة فينا .. ليلى
تستجدي زمانها
لحظة الشوق المؤجل!
وتتجلى أخيراً أقوى أمارات الاغتراب في قصيدة (لك … لأجلك) عندما يمتزج الألم والنسيان والأشواق الحائرة والمجاهل في آنٍ واحد، عندما نقدّم كُلّ شيء لكن بالمقابل لا نحصل على شيء هنا تكمن الكارثة العظيمة والزّلزال المدمّر تماما ً، عندما تقدم كل شيء، وتكون النتيجة المقابلة لذلك العطاء: لا شيء. فبوساطة ( لا المِلك ) المكررة في القصيدة (6 ) مرات، وضُعْفُ ذلك ( لك ) ، تقدم الشاعرة العطاء كلّه ( لأجلك أبحث / لأجلك أريد / لأجلك أنسج / لأجلك أعصر / لأجلك أجوب ) ، وماذا يكون مقابل هذا ، لا يكون إلا الاغتراب ولاسيما بعد كلمة ( لكنّه ) ، فنقرأ بعد هذه – أي بعد لكنّه – : طلب البحث عني ، أين وكيف وجدتني / أظلاً زائفا / وحلما تتساقط أغصانه / أمْ أملاً نابعا أخضرا / وعمراً رائعا فالأمر غير واضح بعد كل التضحيات التي تلت: ( لأجلك )؛ والسبب كُلّ السبب هو الشعور بالاغتراب المكثّف، لنسمع القصيدة بعد هذا التحليل :
لأجلك…
أبحث عن جزر خضراء،
تظلّلها أزهار القرنفل البيضاء..
في مجاهل، يهطل عليها مطرٌ أخضر.
لك.. لأجلك أريد
أن أصطاد هلالا أخضر، لك..لأجلك..
أنسج حرفا،
يشدو ألما..
يعزف في سره
الحانا كنارية عاشقة
لأجلك، أبحث
عن بحر أخضر لأجلك..
أجوب بحارا، وبحارا
لأجلك..أعصر أيامي باحثة !
عن آمالها الغرقي
كثيرة هي الأسطر الشعرية التي تحمل الاغتراب في هذه المجموعة، وزيادة على ما أوردناه آنفاً نذكر عدداً من الصفات التي إذا حللناها بنيوياً تكوينياً داخل السطر الشّعري؛ لظهر الاغتراب واضحاً جلياً، ومن تلك الصفات: (التشاؤم / الموت / الانتظار / الضّياع / النزف /الألم / الرّحيل / الانتحار / الجرح)
الصراع قائمٌ في هذا الديوان، وكما قال شاخت: إن الاغتراب شاقٌّ
المصادر
1 – الاغتراب / ريتشارد شاخت / ترجمة: كامل يوسف حسين – المـؤسسة للدراسات والنشر – بيروت / لبنان
2 – الإله المحتجِب / لوسيان جولدمان -ترجمة: د-عزيزة أحمد سعيد – مراجعة: أنور مغيث – المركز القومي للترجمة -القاهرة.
3 – مرافئ ضبابية / منوّر ملا حسون – ط / 2 – وزارة الثقافة / جمهورية العراق 2010 م