رضا المحمداوي
إذا تجاوزنا عتبة العنوان فهل يمكن إعتبار عتبة (الإهداء) الذي يقدُّمهُ الشاعر: نصير الشيخ في مُسَّتهل مجموعتهِ الشعرية الجديدة (كأسٌ لحياةٍ اخرى) دلالةً موحيةً ومُوجِّهاً قرائياً لغرض تحديد إتجاه بوصلة التلقي على نحو مُحدَّد؟ لا سيَّما أنَّها تشيرُ إشارةً واضحةً إلى المعنى الكلي والمهيمن الأكبر على نصوص المجموعة حيث يقول ألإهداء:(هناك ..وعند التخوم البعيدة ثمةَ إمرأةٌ تلوحُ لنا بمنديلها الذي لا نراهُ) .
ومن بين عشرين نصاً ضمتها المجموعة الشعرية هيمنتْ الثنائية العاطفية التي تضمُّ الذات والمرأة وبينهما الحب المتأجج والمنفعل في إطار من رومانسية مُستعادة بعيدةً عن إحتدام الحياة وصخبها، وهو المناخ العام بضجيجهِ الذي نهلوا منهُ والتصقوا بهِ شعراء العقد التسعيني الذي ينتمي إليهم نصير الشيخ تأريخياً من حيث التجييل والنشأة والتكوين.وإن لم نعدم حضور موضوعة الحرب، وضغط الحياة وأسئلتها، وألهَّم الانساني، والبحث عن ملاذ.
هذه العاطفة المتأججة والإندفاع الوجداني تجاه المرأة في أغلبية نصوص المجموعة إنما جاءتْ في إطار رؤية ذاتية للشاعر قوامها التجربة المُشبّعة بألإحساس وظمأ الحياة والتوق لها، وفي إطار نظرة فلسفية عامة تجيءُ المرأة في نصوص (كأس لحياة أخرى) على أنها المعادل الموضوعي للحياة نفسها لدى الشاعر بمباهجها ومتعتها ولذتها لتكّون بذلك آصرة الإنشداد الوجودي لها.
وإذْ تغيب المرأة من المشاركة والتفاعل الآني في زمن القصيدة، فإنَّ الشاعر وفي إطار لُعبتهِ اللغوية يستحضرها من خلال التنويع في إستخدام الضمائر التي تعود اليها ويمكن الإستدلال بنص (غربة ٌ تحوكُ إنتظارها) حيث تجمَّد الوقت ولفتّهُ غربةٌ مُثلَّجة وهيمنَ الصمتُ وتسرَّبَ الزمنُ مثل الرمل، ويُعاد رسم المرأة بملامح باردة كشظيةٍ في جسد في حين يضيق الفضاء بينهما بالاسئلة.
وإزاء (أنا) الذات الحاضرة والفاعلة بصوتها الواضح والقوي الذي غالباً ما يكون طاغياً، نجدُ الضمائر التي تعود الى المرأة .. مثل (هي)وضمير المُخَاطب الحاضر (أنتِ) حيث يتم إستحضار وجودها -الغائب من أجل المكاشفة والبوح والعتب وإنثيال العاطفة حيث يفتح الشاعر أسرار قلبه ويتحسسها نبضةً … نبضة ً وهو يبوح بها ويَدَعُ روحه تُحّلقُ بأجنحةٍ من ياسمين عبر ذاكرة طرية وحيوية قادرة على إلإستعادة وبث الحياة في ركام الذكريات المتراكمة الشائخة في أفق خيالي حالم. ويقفُ نص (نصوص لسيدة الغياب) بدلالة العنوان أوّلاً وبمقاطعهِ ال(12) التي تضمنها إنموذجاً في تجسيد لعبة الغياب والحضور من أجل إضاءة التجربة العاطفية والكشف عن مدلولتها.
التقنية وألإسلوب
لا يعّبرُ الشاعر عن تلك العاطفة المتأججة وإندفاعها الوجداني بقصيدة نثر عاطفية ذات نمط مُتعارف عليه، بل يعمدُ الى إستخدام تقنية الكتابة الشعرية المقطعية المُرقّمة والمتوالية توالياً رياضياً تقليدياً (4،3،2،1 …) ومن خلال هذه التقنية والاسلوب الشعري يبدو الشاعر، هنا، وكأنهُ يستقطر لغته ويعتصرها ألماً وشوقاً وحنيناً لتتكثف اللغة لديهِ على شكل مقاطع منفصلة يجمعها المناخ العاطفي الواحد ويؤطرها بالبوح الوجداني العميق مع ما تتطلبهُ هذه المقطعية الشعرية من كثافة وإختزال تصل لغة نصير الشيخ بواسطتها إلى جمالية بليغة تضعهُ في إطار ما عاد يعرفُ ب(قصائد الصورة).
وفي تنويع آخرعلى تلك المقطعية وإختصارها الى جملة قصيرة واحدة يدخل الشاعر الى عالم (الومضة الشعرية) حيث تكون الجملة الشعرية الواحدة بناءً لغوياً كاملاً ويُحقّق نصير الشيخ من خلال ذلك كله معادلة صعبة في النسيج الشعري حيث البناء الفني للمقطع الشعري القصير مع ضرورة الوصول الى رسم صورة واضحة ومؤثرة تحقق التفاعل الحيوي.
وفي الوقت الذي تتباين النصوص في عدد المقاطع المُكّونة لها، فإن بعض تلك النصوص تتفاوت في إستثمار (الثيمة) الواحدة أو المعنى العام لها ، ولذا تجد تلك النصوص تتأرجح بين الإخلاص لفكرتها بحيث تحافظ على وحدتها وبنيتها الفكرية الاساسية من خلال المقاطع المُكّونة لها وهو ما تمثلهُ لنا بشكل عام نصوص الثنائية العاطفية التي حافظتْ على بنيتها الواحدة مثل (حدائق البلور) و( تراجيديا الرمل) و(غربةٌ تحوكُ إنتظارها)وغيرها…، أو ألإنتقال من فكرة الى أخرى من خلال تلك المقاطع بحيث لا يشملُ الشاعرُ نصَّهُ المقطعي بفكرة شاملة واحدة لكنه ينتقل من فكرة الى إخرى من خلال أرقام تلك المقاطع وكأنَّ لكل فكرة رقماً أو لكل رقم فكرة وهو ما تجسدَّ لنا في نصوص (بروق) و(أوهام إفلاطونية) و(نصوص) و( في الريح صوتكَ يزدهي).
وبعيداً عن الاستذكار والعاطفة المُستعادة يقفُ نص (أوجاع فادحة) بمقاطعهِ العشرة والقريبة من الذات الانسانية وهمومها كنموذج مُتقدّم بطريقة البناء والإداء الشعري حيث يحافظ هذا النص على بنيتهِ الداخلية الموحدة ولا يبتعد عن بؤرتها المُشعّة على شكل دائرة بعشرة أجزاء حيث الذات الموجوعة بأحلامها المؤجلة، والتعب، والنهارات المسكونة بالحزن المرير، ويحاصرها الخوف والفجيعة، وتدوسها سرفات الندم، ولا يجد سوى صليب البكاء بعد أنْ تكون قد حاصرها الخريف بالسؤال.
ومِن المُلاحظ في هذا النص أنَّ الذات الانسانية ومن خلال المقاطع العشرة قد تحّولتْ الى شخصية بملامح وأبعاد واضحة إذا إستعرنا من السرد القصصي أو الدرامي معنى الشخصية وفعلها المؤثر حيث تُقدّمُ هذ المقاطع صورةً مرسومةً بعناية لشخصيةٍ مطعونةٍ بإلأسى، ومُحَاصرَة، لا تجدُ لها من عزاء إزاء الفقد واللوعة والغربة. وتعمل هذا المقاطع العشرة [عبّأ أحلامهُ/ مضى يرمم/ داهمهُ الخريف/ أيقظتهُ الفجيعة/ إستفزهُ الرصاص/ سوّرتهُ المخاوف…وغيرها] وكأنها لقطات درامية مُصَّورة بعدة أفعال لشخصية واحدة وقد تجسدتْ لنا على شاشة النص بإنتقالات وامضة بين لقطة وأخرى وهذه الامكانية التصويرية مع وحدة البناء الواحدة قد منحتْ النص قوتَهُ وتماسكَهُ.
وفي موضوعة الحرب يقف نص( إنهم يحّلقون هناك)بمقاطعهِ ال12 نموذجاً آخر لتمركز الفكرة فيه وتماسك وحداته البنائية من أجل الكشف عن دموية الحرب وسوداويتها ووحشيتها من خلال تعرضها للطفولة والبراءة … وكذلك نص ( بروق الدم)بمقاطعهِ الستة .
قصائد الومضة:
وفي نصين هما (من بئرها المهجورة) و(نصوص الكاماسوترا) يجترح الشاعر تنويعاً جديداً لتقنية وأسلوب المقاطع الشعرية المُرَقمة، فبدلاً من تلك المقاطع يعتمد الشاعر أيقونة النجمة الالكترونية () لكل مقطع قصير مستقل ليميزَّهُ عن غيرهِ ليصل في بعض مقاطع هذا الاسلوب الى قصيدة (الومضة).
وألأسلوب ألأخير الممهور بالنجمة () لا يختلفُ كثيراً عن المقاطع المُرَقمّة من حيث البناء والتقطيع بل وحتى في المضمون العام وأجواء العاطفة المشبوبة التي دأب الشاعر على نسج نصوص عُرِفَتْ بفيضها العاطفي وتأججها الحسيِّ.
قصائد قصيرة:
إنفردتْ ثلاثة نصوص قصيرة هي:( رقاد الأمير)ب24 كلمة و(سراب) ب35 كلمة و(توق)ب32 كلمة بخلوِّها من المقطعية الشعرية بنوعيها اللذين إستخدمها الشاعر، حيث إعتمدتْ على بناء قصيدة النثر القصيرة المعروفة.وقد إمتاز النصّان ألأوليان منها بصخب المفردات وتراكمها لكنهما بقيا نصين هائمين بحاجة الى التكثيف والتقطير الذي إعتمدهُ الشاعر في إغلب نصوصه كي تمنح نفسها بسهولة والوصول الى المعنى والمبتغى ، وهو ما قدَّمهُ لنا الشاعر في القصيدة القصيرة الثالثة ( توق) حيث العاطفة الانسانية الدافئة المؤطرة بالسلاسة اللغوية وإنسيابيتها الشفيفة .