محمود جمال عبد العال
انقلبت التحليلات السياسية التي تناولت حزب العدالة والتنمية في تركيا كتجربةٍ فريدة للجمع بين التراث من الدولة العثمانية والحداثة وروح العصر من الجمهورية الأتاتوركية، إلى حالة مختلفة تمامًا في أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إذ تهيمن حالة الفردانية على زعيم الحزب «رجب طيب أردوغان»، وهو ما بدا جليًا في التعديلات الدستورية الأخيرة التي سمحت له بالاستئثار بمنصب رئيس الجمهورية بصلاحيات كاملة بعد استبعاده لرفاقه في الحزب مثل «أحمد داوود أوغلو»، و»عبدالله جول» اللذين رفضا فكرة تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي بهدف إشباع رغبات شخصية لـ «أردوغان» فضلًا عن انقلاب «أردوغان» على نظرية «صفر مشاكل» التي أرسى دعائمها مهندس السياسة الخارجية التركية «داوود أوغلو»، وتحولت تركيا إلى حالة عداء مع أغلب دول الإقليم لا سيما مصر والإمارات والمملكة العربية السعودية التي تمثل مجتمعة أعمدة أساسية في الإقليم العربي.
لم يكتفِ «أردوغان» باحتكار سلطات الدولة لنفسه فحسب، ولكنه عمل على تجريف حزبه من أي نخبة سياسية قد تنافسه الزعامة، وهو ما قد يُهدد مستقبل حزب العدالة والتنمية ككل في حقبة ما بعد أردوغان. وقد انعكست سياسة «أردوغان» الفردية في إدارة حزب العدالة والتنمية على نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة التي خسر فيها «بن علي يلدريم»، القيادي في حزب العدالة والتنمية، ورئيس الوزراء السابق، ورئيس البرلمان، منصب رئيس بلدية إسطنبول.
سنحاول في هذا التقرير استشراف مستقبل حزب العدالة والتنمية في سياق السياسات الإقصائية التي يتبعها «أردوغان» بحق رموز حزبه، وهو ما عبَّر عنه مُنظر الحزب ورئيس الوزراء الأسبق «داوود أوغلو» مؤخرًا في منشورٍ مطول على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك». وقد لاقى المنشور انتشارًا واسعًا على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية كونه رسالة كاشفة لتدهور الأوضاع السياسية التي وصل لها حزب العدالة والتنمية في تركيا والتي تضمنت تقييد حرية الإعلام والصحافة، والتضييق على عمل منظمات المجتمع المدني مما أدى إلى تراجع شعبية الحزب بشكلٍ مُقلق وفقًا لما أفرزته نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة التي خسر فيها الحزب أغلب المدن الكبرى، وفي المقدمة أنقرة وإسطنبول اللتين تضمان وحدهما خمس سكان تركيا.
دلالات الهشاشة، والتراجع
برزت هشاشة المشهد السياسي التركي بشكلٍ عام، وحزب العدالة والتنمية بشكلٍ خاص بشكلٍ جلي بعد ظهور نتائج الانتخابات البلدية التي مُني فيها الحزب بخسارة فادحة سيما في البلديات الكبرى مثل أنقرة، وإسطنبول لصالح المعارضة العلمانية. وأظهرت هذه الانتخابات وما تلاها من مطالبات لحزب العدالة والتنمية، وزعيمه بإلغاء نتائج الانتخابات الحزب ليس كنظام الحزب الواحد الذي عرفته أدبيات النظم السياسية المقارنة والعلوم السياسية، ولكن برز كحزب الفرد الأوحد الذي عادة ما اتسمت به الأنظمة الشمولية. وسنحاول فيما يلي إبراز دلالات ومؤشرات تراجع حزب العدالة والتنمية جماهيريًا وسياسيًا.
- انتكاس حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية: مثَّلت نتائج الانتخابات البلدية نقطة فاصلة في مستقبل حزب العدالة والتنمية، وذلك برغم فوزه بأربعين بلدية تقريبًا، ولكن ذلك لم يكن كافيًا، إذ أن الحزب تراجع بنسبة 20% عن الانتخابات البلدية عام 2014 (1). وزادت خسارة بلديتي أنقرة وإسطنبول من صعوبة الأمر لدى أنصار حزب العدالة والتنمية، حيث يمثل السكان فيهما حوالي خمس عدد المواطنين في تركيا. في سياقٍ آخر، تُكتسي هذه الانتخابات أهميتها من رمزية الانتخابات البلدية لدى حزب العدالة والتنمية، إذ شهدت بلدية إسطنبول صعود نجم زعيم الحزب الحالي «أردوغان». ويُعزي المحللون تراجع أداء الحزب في هذه الانتخابات لاعتبارات تتصل بتراجع الأداء الاقتصادي وتدهور قيمة العملة التركية فضلًا عن تمكن «أردوغان» من تمرير التعديلات الدستورية التي سمحت له بالتحول إلى النظام الرئاسي بدلًا من البرلماني.
- خسارة «يلدريم» بلدية إسطنبول»: يعد الأتراك أن منّ يفز برئاسة بلدية إسطنبول كمّن فاز برئاسة تركيا، وذلك لما تمثله إسطنبول من رمزية سياسية، دينية، وتاريخية فضلًا عن حجم الكتلة السكانية التي تقطن إسطنبول والتي تصل إلى 15 مليونًا يمثلون شرائح المجتمع التركي المختلفة. وتعكس نتائج إسطنبول مستقبل الأوضاع السياسية والأوزان الترجيحية للقوى السياسية مما قد ينعكس على المشهد السياسي برمته مستقبلًا. فقد كان فوز «أردوغان» ببلدية إسطنبول بداية صعوده وحزبه في السياسة التركية، وانطلقوا من البلديات إلى تشكيل الحكومة وقيادتها. من زاوية أخرى، تُمثل إسطنبول نقطة الاتصال بين تركيا الإسلامية التي لم تنفصل عن ماضيها العثماني، وتركيا العلمانية التي تتطلع إلى الحداثة الأوربية التي تبناها «مصطفى كمال أتاتورك». وتُعبر خسارة «يلدريم» رئيس الوزراء السابق، ورئيس البرلمان عن لحظة كاشفة لتدهور أوضاع الحزب الداخلية، وعقمه عن تنشئة نخب سياسية جديدة خاصة بعد تعمد «أردوغان» تفريغ الحزب من القيادات والنخب الكاريزمية بهدف التفرد بعملية صنع القرار داخل الحزب. ولعل هذا أحد أهم الأسباب التي دفعت «أوغلو» للدعوة إلى الإصلاح داخل الحزب، وذلك بعد أن شعر بسطوة الفردانية وخطورتها على الحزب مستقبلًا.
- الانقلاب على الديمقراطية: رغم الهزيمة الواضحة التي مُني بها حزب العدالة والتنمية في البلديات الكبرى إلا أنه شكك في نتائج انتخابات بلدية إسطنبول، وأعلن فوز مرشحه. وحاول الحزب تغيير النتيجة بأكثر من طريقة منها تقديم الطعون، والمطالبة بإعادة الفرز في بعض اللجان وصولًا إلى المطالبة بإعادة انتخابات بلدية إسطنبول ككل، وهو ما رفضته اللجنة المشرفة على الانتخابات التي أقرَّت فوز «إكرام إمام أوغلو» مرشح حزب الشعب الجمهوري. وفي هذا السياق، انتقد «سيد طورون» نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري طلب حزب العدالة والتنمية بإعادة الانتخابات متهمًا هذا السلوك بغير الديمقراطي. وقال حزب الشعب الجمهوري في بيانٍ له: «إنهم يعتبرون الديمقراطية أمرًا جيدًا إذا أوصلتهم للحكم، كما يعتبرون الانتخابات نزيهة فقط إذا نجحوا بها». وعبَّر «إكرام أوغلو» رئيس بلدية إسطنبول الفائز عن غضبه من تعامل «أردوغان» وحزبه مع الديمقراطية، ورأى أنهم لا يعترفون بها إلا إذا ضمنت فوزهم، واستنكر حزب الشعب الجمهوري عدم إقدام حزب العدالة والتنمية على الاعتراف بالهزيمة ومن ثم البدء جديًا في مرحلة المراجعة قبل السقوط الأكبر. من ناحيةٍ أخرى، أدان الرئيس التركي السابق «عبد الله جول» دعوات حزب العدالة والتنمية لإلغاء نتائج انتخابات مدينة إسطنبول، ودعا إلى احترام قرارات اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات.
دلالات التوقيت .. رسالة «أوغلو» وانعكاساتها
تُشير التحليلات السياسية إلى أن رسالة «داوود أوغلو» تحمل في طيّاتها أكثر من هدف، فلم تكن رسالة «أوغلو» تذكيرًا لـ «أردوغان»، ومجموعته بضرورة مراجعة السياسات الداخلية للحزب فقط، ولكنها قد تصل إلى بدء مرحلة الانشقاق عن الحزب وتأسيس حزب جديد بعد إبراز نفسه كناصح ومستشار يعمل لمصلحة الحزب دون أن يقابل ذلك أي استجابة فعلية من القائمين على عملية صنع القرار داخل الحزب. وقد أشارت رسالة «أوغلو» إلى عددٍ من الأخطاء التي ارتكبها حزبه، وأدت إلى تراجع نتائجه في الانتخابات البلدية الأخيرة، وأهمها:
أ. تراجع الديمقراطية والمشورة داخل الحزب: انتقد «أوغلو» إهمال مبدأ الشورى داخل الحزب وتهميش وتخوين من خدموا في صفوف الحزب سابقًا، والاعتماد على فكر شخص واحد مما أدى إلى إظهار الحزب في وضع يُغذي من تهميش الجماعة لمصلحة الفرد.
ب. التحالف مع حزب الحركة القومية: اعتبر «داوود أوغلو» أن التحالف مع حزب الحركة القومية أضر بهوية الحزب مما سبب تشويشًا لدى الناخب التركي. ورأى «أوغلو» أن هذا التحالف جعل النشاط السياسي للحزب ينحصر في وسط الأناضول والبحر الأسود مبتعدًا عن المدن الساحلية كإسطنبول.
ت. القيود المفروضة على حرية الصحافة والإعلام: تحتل تركيا مراكز متأخرة في التقارير الدولية والعالمية فيما يتعلق بمسألة حرية الصحافة. وفي هذا السياق، أعلنت لجنة حماية الصحفيين عن أن تركيا وحدها تعتقل أكثر من ربع الصحفيين من إجمالي الصحفيين المحتجزين حول العالم (2).
ورغم أن انتقادات «أوغلو» لإدارة الرئيس «أردوغان» لم تكن جديدة في طرحها إلا أنها اكتست أهميتها من التوقيت الذي طرحها فيه؛ إذ استغل «أوغلو» تراجع نتائج الحزب في الانتخابات البلدية، وما سبق ذلك من تآكل غير مسبوق في نخبة الحزب وقياداته التي فُقدت نتيجة لسياسة «أردوغان» الفردية داخل الحزب، وضمن ذلك تصاعد أدوار النخب المحافظة والبيروقراطية الأكثر ولاءً لأروغان، والأقل إبداعًا في الوقت نفسه (3)؛ إذ لا تمتلك هذه النخب والقيادات أي خبرات سياسية سابقة، وهو ما تأكد بخسارة «يلدريم» انتخابات بلدية إسطنبول، وهو كان يشغل موقع الرجل الأول في النظام السياسي التركي (رئيس الوزراء) قبل التحول إلى النظام الرئاسي.
هل يُمكن أن يشهد العدالة والتنمية انشقاقًا؟
تُشير التحليلات التي تناولت رسالة «داوود أوغلو» الأخيرة إلى صعوبة المستقبل الذي يُمكن أن ينتظر حزب العدالة والتنمية في حال عدم الاكتراث بالرسائل السياسية التي أرسلها الأتراك له عبر الانتخابات البلدية. وتذهب بعض التحليلات إلى احتمالية أن يشهد حزب العدالة والتنمية انشقاقًا داخليًا تقوده قيادات الحزب الكاريزمية التي استبعدها «أردوغان» مثل «جول» و»داوود أوغلو»، وذلك على شاكلة خروج حزب العدالة والتنمية نفسه من رحم حزب العدالة والتنمية. وفي هذا الصدد، يُمكن أن ننظر إلى رسالة «داوود أوغلو» الأخيرة على أنها إنذار موجه لمؤيدي حزب العدالة والتنمية أكثر منه القائمين على عملية الحكم، وذلك بهدف اكتساب الشعبية، والظهور في موقع الرجل الذي تهمه مصلحة التيار الإسلامي مما يضمن له دعمًا وولاء عند قواعد الحزب من الجماهير. يتسق ذلك مع أحد تحليلات بلومبرج عن تمرد ضد الرئيس «أردوغان» وسياسته داخل حزب العدالة والتنمية.
ختامًا؛ يبدو واضحًا للعين المجردة الحال الذي وصل له حزب العدالة والتنمية من تمجيد الفرد، وتقديم أهل الثقة والولاء على الكفاءات.
فمن تعهد «أردوغان» عام 2001 الذي دعا فيه إلى عدم الفردية، أو التمجيد لأي شخص إلى حزب الرجل الأوحد عام 2019، ومن الحزب الذي خرج من رحم التعبئة الشعبية والحكم المحلي بعد الفوز في الانتخابات البلدية في إسطنبول وأنقرة وبقية الولايات التركية إلى الحزب الذي يخسرها. وقد يترتب على ذلك أن يخرج قادة الرعيل الأول من الحزب أمثال «أوغلو» عن حالة الصمت التي يعيشون بها لإنقاذ التجربة ككل، وذلك من خلال قيادة تمرد داخل الحزب، أو يُمكن أن يصل حد الانشقاق عن العدالة والتنمية وتأسيس حزب جديد. الهوامش: - مصطفى صلاح، الانتخابات البلدية التركية .. الدلالات الداخلية والانعكاسات الخارجية، المركز العربي للبحوث والدراسات (2/4/2019)
- لجنة حماية الصحفيين: 251 صحفياً معتقلاً حول العالم ربعهم في تركيا، يورو نيـوز (14/12/2018)
- الشخصنـة والفرديـة تدمّـران «العدالة والتنمية»، القبس (27/4/2019)
المركز العربـي للبحوث والدراسـات