من غزوة نيويورك إلى تمدّد الارهاب
إسماعيل زاير
بالنسبة لاسامة بن لادن، كانت عملية الهجوم على مبنيي البرج التجاريّ الأميركيّ مجرّد غزوة دافعها الإنتقام الدينيّ والسياسيّ ومحرّكها الكراهية التليدة للولايات المتحدة الأميركيّة . ولكنّه لم ينتبه ولم يدرس ولم يتأمل العواقب المحتملة والتالية لعمليته الإستعراضية هذه ولا تردّد في ارتكابها بسبب الأذى الذي ستتسبب به للأبرياء فلم تكن هذه جزءاً من حساباته المريضة.
اما بالنسبة لمخططي ومحللي المخاطر والإستراتيجيات الأميركيّة، فقد كان الأمر بعيداً عن أي تصوّر أو سيناريو ممكن التحقق وأفضل توصيف للمخاطر التي كان يشكّلها بن لادن وتنظيمه المعروف باسم «القاعدة «، هو حسب التعبير الرسميّ المخابراتي والأمنيّ: «خطر محتمل»، أي انّه لا يحتل بالنسبة لنشاط المؤسّسات الفيدراليّة الأميركيّة أولوية في سلم قائمة المطلوبين الأكثر خطورة.
ولكنّ الحادي عشر من «سبتمبر» أيلول أضحى التأريخ الأكثر حسماً وتأثيراً في سياسات الكون كلّه. فمن وجهة العواقب المباشرة – مقدار الأضرار التي تسبّبت بها والخسائر والضحايا الذين فقدوا حياتهم بسببها وما بعدها من نشاطات – والعواقب غير المباشرة على المستوى السياسيّ والتخطيطيّ والاستراتيجيّ، وعلى مستوى التحالفات الإقليميّة للولايات المتحدة، من هذين الوجهتين كان ذلك التاريخ الحد القاطع الذي رسم صورة مرحلتين مختلفتين تماماً عما قبلهما.
الخسائر والدمار الذي ألحقه العمل المُباغت بجرأته وقسوته أيقظت الشعب الأميركيّ، وربّما العالم، وأفزعته وأثارت فيه أعمق المخاوف. وذكّرت عملية الهجوم على برج التجارة ما حصل للولايات المتحدة في أثناء وبعد عملية الهجوم اليابانيّ في 7 «ديسمبر» 1941 على الأسطول الأميركيّ القابع في المحيط الهادئ في قاعدته البحريّة في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي.
وكما غيّر هذا الحدث مجرى التاريخ وأرغم الولايات المتحدة على دخول الحرب العالميّة الثانية أجبرت غزوة بن لادن واشنطن على تدشين حرب عالميّة واسعة النطاق ضدّ الإرهاب وغيّرت تحالفاتها الإقليميّة وقبل ذلك وأكثر أهمية منه غيّرت الإستراتيجية السياسيّة للولايات المتحدة .
فمن ناحية التحالفات المتبعة لدى واشنطن تخلّت واشنطن، تحت صدمة اكتشاف انّ 15 من أصل 17 مشاركاً في الهجوم ضمن تلك العملية كانوا يحملون الجنسية السعودية، عن تحفظاتها على أساس أنّ المملكة العربية السعودية دولة صديقة. وابتداء من ذلك اليوم تحوّلت العلاقة مع الرياض الى عمل مثير للشبهات بما في ذلك مراجعة جميع المعارف والوثائق والشركاء والأصدقاء السعوديّين ووضعهم تحت مجهر الفحص الأمنيّ والمخابراتيّ.. وتحوّلت الاجتماعات الطرفية التقليديّة والاستثنائيّة الى حالات من التعذيب والإتهامات المتبادلة أخذت واشنطن فيها دور المهاجم والطرف الذي يملي، بعد أن كان شريكاً في أجندة الاجتماعات. الصفقات والعقود السعودية العسكريّة والمعدات المتوجهة الى الرياض أعيد فحص مرجعياتها وحصانتها المخابراتيّة وارتباطاتها بمشبوهين ضمن خريطة شبكات القاعدة وضمن أنصار ومؤيّدين محتملين لها داخل المملكة.
11 سبتمبر والموقف من نظام صدّام
وأكثر من أي شيء آخر لم تعد واشنطن ملتزمة بالتشاور أو أقلّها بقبول التحليلات الصادرة عن المملكة كما كان الأمر يجري قبل ذلك. ومن هنا كان لحملة الحادي عشر من سبتمبر أثرها الأساسي في اسقاط المخاوف السياسيّة المرتكزة على تقييمات سعودية، بصدد التعامل مع المخاطر الإقليميّة الأخرى ومنها مخاطر النظام الصدّامي. هجمات سبتمبر أدّت إلى عدم الإكتراث إلى مقولة أنّ أي محاولة لتغيير طبيعة النظام العراقيّ الطائفيّة ستتسبب بالإخلال بالتوازن الإقليمي لمصلحة ايران وحلفائها في المنطقة. وكانت هذه المقولة حجر الزاوية على امتداد عقود من الزمن في التعاطي مع النظام العراقيّ، الأمر الذي جعله ينجو كلّ مرّة يخترق فيها الخطوط الدوليّة الحمراء من العقاب الدوليّ. بل انّه نجح في الحصول على مقاولة خطيرة في محاولة اسقاط النظام الثوريّ الجديد في ايران لحساب الشريكين الكبيرين في المخطط واشنطن والرياض. كما انّه نجح في تجنّب العقوبات المترتبة على استعماله للغازات السامة في حلبجة شمال العراق وذلك يوم 17 مارس/ آذار من عام 1988. وبعد ذلك نجاته من الهجوم الدوليّ الشامل بعد غزوه دولة الكويت واحتلالها حيث آثرت القيادة الأميركيّة عدم ملاحقته الى بغداد، على عكس الارادة الإنسانيّة الواسعة وبرغم ايغاله في قمع العراقيّين وقتلهم في مرحلة ما بعد الحرب.
كلّ هذه المواقف وغيرها الكثير كانت بدافع عدم الإخلال بالتوازن الطائفيّ كما تفهمه المملكة العربيّة السعودية وكما كانت قد أقنعت به القيادات الأميركيّة عبر عقود من الزمن. لهذا فقد تحوّلت الإدارة الأميركيّة بعد الحادي عشر من سبتمبر الى مواقع التحدّي الصارم والقاطع ضدّ النظام الصدّامي المنفلت من أي طوق أخلاقيّ وانسانيّ. في الماضي غطت الولايات المتحدة على جرائم النظام العراقيّ بشتّى الوسائل. وكانت عملية التغطية تجري ضمن مفهوم شامل اتبعته واشنطن، أو بالأحرى طوّرته عبر عقود الحرب الباردة والتنافس الاقليمي البعيد عن القيم الانسانيّة الذي تبنّاه عالم القطبين الأميركيّ والسوفياتيّ. والذي انطوى على سياسات اجرامية مخجلة يندى لها الجبين لا سيما في التحالف مع الدكتاتوريات واغضاء الطرف عن انتهاكاتها ضدّ الشعوب. ففي حالة العراق لم تتوقف واشنطن عند الدعم المخابراتي لنظام صدّام الى الدعم الماليّ والضمانات الماليّة التي سهّلت على صدّام استيراد الكثير من حاجاته الملحة. وبالتالي فقد عمدت واشنطن الى التغطية على جريمة تسميم سكان حلبجة بإصدار تقرير عسكريّ يضع اللوم على ايران.
كما كانت معارك تحرير الكويت بعد ذلك أي عام 1991، قد كشفت مفاجأة كبيرة عندما وجد القائد العسكريّ لقوات التحالف الغربي نورمان شوارزكوف انّ الدبابات العراقية مزوّدة بانظمة النواظير الليليّة الحراريّة التي لم تتزوّد بها قوات حلف الأطلسي بعد. وأوضحت التحقيقات التي أجريت لاحقاً انّ صدّام حصل عليها من مصانعها الموجودة في الغرب، كما انّه حصل فوق المئات من النواظير الجاهزة على نسخة كاملة من المصنع من احدى الدول الغربية الشريكة لواشنطن.
الدرس الأساسيّ المستخلص من علاقات واشنطن مع العراق والمنطقة كانت محكومة بسلسلة من الافتراضات العسكريّة والاجتماعيّة التي خدمت على الدوام المخططات والمصالح السعودية. ولكنّها مصالح متطابقة مع مصالح الولايات المتحدة. غير انّ المدقّق في سياسات الرياض يرى انّها ارتكزت في رسم خريطة حلفائها على النسيج الطائفيّ السنيّ وشجّعته وغذّته بالأموال وربطت بينه وبين المخططات الغربيّة في العالم بالتنسيق مع واشنطن أولاً ومع حلف الأطلسي الذي كانت المملكة عضواً غير معلن في نشاطاته. إلا انّها بعد الحادي عشر من سبتمبر غادرت العربيّة السعودية في ما يخصّ العراق وابتعدت بالتالي عن حلفاء الرياض في المنطقة والإقليم. وبعد التعثّر الأميركيّ في العراق كانت النتيجة التي لم تحسبها واشنطن، هي أنّ أطراف مستفيدة من تغيير السياسة الأميركيّة تجاه العراق عزّزت مواقعها المضادّة لواشنطن والسعودية، وأفرزت السياسات والأحداث اللاحقة معادلات مختلفة عما بدأت به تحالفات مابعد 11 سبتمبر 2001 . فارتدت على واشنطن منظّمات حليفة كالقاعدة وأخواتها في باكستان وأفغانستان، واضطربت سياسات واشنطن أكثر عندما لم تتمكن من السيطرة على سفينة الأحداث وسط أمواج السخط السعوديّ والسنيّ بعد غزو العراق واتضاح عناصر الخلل والفشل ما بعد احتلال بلاد الرافدين.
اليوم تتذوّق واشنطن ثمار سياساتها المتخبطة في شرقنا المتوسط وهي لم تتجرّأ على ملامسة البعد الاجتماعيّ للمعضلات الملتهبة في المنطقة وفي مقدمتها ضرورة تغيير سياساتها تجاه اسرائيل أيضاً . فهذه الدولة التي تحتل فلسطين وتنتهك حقوق شعبه بقيت في منأى عن رياح التغيير العاتية وأجلت استحقاقات الإصلاح والحل بل عارضتها برغم انّها جاءت من واشنطن نفسها. هكذا فقد فتحت هجمات الحادي عشر من أيلول الباب على مصراعيه أمام نزاعات وتغوّلات للحركات الدينيّة التابعة أصلاً للولايات المتحدة والسعودية حتّى انتهينا الى «الدولة الإسلاميّة..» التي تبيّن انّ خطرها يتجاوز «القاعدة».
انّ الإدارة الأميركيّة في عهد الديمقراطيّين اليوم أعجز من أن تتجاوز التحدّيات التي أمامها ولا سيما انّ الزمن منح الغول المتطرّف المتمثّل بـ»داعش» فرصة التوسّع واكتساب الخبرة والمال والحلفاء. وعشية تغيير الرئيس أوباما مقترباته لمعالجة «داعش» يبدو العالم أكثر بؤساً ومستقبله أكثر ظلاميّة وليس ثمّة حلول واضحة في الأفق.