بصدد “النظرية النقدية”

يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.

تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب

الحلقة 6

في رسالة بعثها أدورنو إلى بنيامين في العام 1939، نجد إنتقاداً للطريقة غير الديالكتيكية التي جمع بها بنيامين بين العمل الفني الديني-الأسطوري والعمل الفني الحديث الموثوق، إنطلاقاً من واقعة أنّ لكليهما “هالة”.
فبنيامين كان قد أقام تعارضاً بين العمل الفني المحاط بهالة من جهة، والعمل المعاصر القابل لإعادة الإنتاج الآلية من جهة أخرى، ووقف في صف هذا الأخير إنطلاقاً من انّه قد أطاح بهالته وأكتسب نوعاً من الإمكانية الكونية الشاملة.
لكن أدورنو لم يقتنع بمثل هذه الحجّة. فمع أنّ أصول “هالة” العمل الفني الأصلي الحديث قد ترجع إلى الإيمان الديني (الذي يعتبره كلّ من أدورنو وبنيامين أمراً عقلانياً)، إلا أنَّ ذلك لا يقضي لنا بشيء عن نوعية هذا العمل، أو قدرته على الكشف، أو إضاءته الواقع.
وبعبارة أخرى، فإنّ العمل الفني الحديث الأصلي هو قوّة تقدمية ولا ينبغي أن يُقَلَّلَ من شأنه بسبب من أنّ له”هالة”، تلك “الهالة” الآيلة إلى الإنحلال على كل حال من العصر الحديث (أدورنو في بلوخ وآخرين 121:1977). وعلاوةً على ذلك، فإنّ من المؤكّد الآن، كما يقول أدورنو، أن الفيلم السينمائي الحديث هو الذي ينشر أعظم الهالات، وإن تكن هالات مصطنعة وزائفة تحيط بسلعة مشيّئة. كما أنّ مكانة المعبود التي يُرْفَع إليها “نجوم” السينما وموسيقا البوب المُفَبْرَكون أو المُلَفْقُون هي أيضاً مقياس للمدى الذي بلغته صناعة الثقافة كقوة نكوصية رجعية، حيث تتّسم صور مثل هؤلاء “النجوم”، بالنسبة للكثيرين، بأنَّ لها خاصية إثارة المشاعر والذكريات مما يجعلها أشبه بالطواطم.
وبالمثل، فإنّ إعتبار السينما تقدميّة بسبب من قدرتها على إدهاش جمهورها ب”إغوائها الصادم المدهش” هو، بالنسبة لأدورنو، مجرّد ضَرْبٍ من الرومانسية. فكثير من “ضحك الجمهور في السينما… ليس حسناً ولا ثورياً بأيّ حال من الأحوال… وهو مُتْرَعٌ بأردأ أنواع السادية البرجوازية” (أدورنو في بلوخ وآخرين 123:1977). وكل من شاهد فيلماً من أفلام “الإنتقام” التي تُنْتَج في هذه الأيام وشعر بتلك اللذة التي لا تقاوم إزاء نهايتها الدموية سوف يعلم ما الذي يقصده أدورنو.
فقد رأى أدورنو أنّ لبّ القضية ليس في تفاصيل وجزيئات تقنيات الإنتاج المتغيّرة كما أشار بنيامين، بل في نمط الإنتاج بالمعنى الواسع. فهذا الأخير يفرض على الفنّ الحديث كلّه، سواء كان محاطاً بهالة أو قابلاً لإعادة الإنتاج، أن يخضع للشكل السلعي.
والآثار المريبة المترتِّبة على نمط الإنتاج الرأسمالي ينبغي أن تستنفر الروح النقدية لدى النظرية النقدية، وليس الأمل بأن تفضي تقنيات إعادة الإنتاج الجديدة بصورة عفوية إلى توليد نظرة نقدية-ديمقراطية لدى الجماهير.
ولقد وجَّه أدورنو قَدْراً كبيراً من نقده لبنيامين وفي ذهنه هدف آخر، هو الكاتب المسرحي برتولت بريخت. فلطالما أعتبر أدورنو تأثير بريخت على بنيامين تأثيراً ضارّاً وسيئاً. ومع أنّ بريخت كاتب ماركسي، إلا أنّ أدورنو كان يعتبر أعماله مخادعة وتلاعبية، ومع أنّ مضمونها تحرري ويساري، فإن ما تتصف به من التلاعب كان يعني أنها تكرِّر خصائص صناعة الثقافة التي وجدها أدورنو نكوصية ورجعية. وربما تكون النازية في أواسط الثلاثينيات قد أضفت طابعاً جمالياً على السياسة إذ جعلت العنف يبدو أسلوباً جذَّاباً ومنعشاً، لكنّ إنتاج الفنّ لغايات سياسية يسارية ليس سوى الوجه الآخر من العملة ذاتها.
فكلاهما عرض من أعراض النمو المخاتل الغادر الذي نمَّاه العقل الأداتي.
النظرية النقدية وما بعد الحداثة
أستكشف في هذا الفصل ذلك التحدي المعاصر الذي أطلقته ما بعد الحداثة في وجه النظرية النقدية، وذلك من خلال إثنين من شخصياتها الرئيسة البارزة، هما جان بودريار وجان فرنسوا ليوتار. وسأعمد أولاً، وفيما يتعلّق بجان بودريار، إلى مقارنة تناوله إنطفاء الذات كعامل فاعل في المجتمع الجماهيري بتناول كل من ماركوزه وأدورنو. وسوف أبيّن، بإستخدام مفهوم الحاجة الإنسانية، أنَّ النظرية النقدية تظل محتفظة بإحساس مهم بواقع الذات؛ وهو شيء يغيب على نحوٍ ملحوظ عن أعمال بودريار. وسأعمد ثانياً إلى تناولٍ مفصّل لذلك التحدي المضاد الذي أطلقه هابرماز في وجه مابعد الحداثة من خلال مقالته “الحداثة: مشروع لم يكتمل”.
فهو يذكّرنا في هذه المقالة بأنّ الآمال التي ولدت في زمن التنوير في القرن الثامن عشر بصدد التقدّم والتحرر والإنسانيين لم تتحَّقق بعد، إلا أنَّ ذلك لا ينبغي أن يكون مدعاة لرفض المشروع برمّته، على نحوٍ ما يفعل ما بعد الحداثيين. فإخفاق ما بعد الحداثة إنَّما يكمن في إلحاحها المفرط على أهمية المجال الجمالي على حساب العوامل النظامية الأخرى التي تلعب دوراً مؤثِّراً بالمثل في حيواتنا.
أمّا بعد ذلك، فسوف أنظر في عمل ليوتار الذي يرى إلى “حكايتنا” الحداثية الكبرى أو “سرديتنا الكبرى”، مثل “التقدم” و”التحرر”، على أنّها ليست سوى أوهام، لأختم بأنّ ليوتار قد أساء فهم آراء هابرماز، وبأنّه إذا ما كانت لدينا آمال بإمكانية أن يلعب العلم الإجتماعي دوره في مستقبلٍ أشدّ عقلانية، فإن علينا أن نتطلع إلى النظرية النقدية وما تقدمه من إثارة.
ومصطلح “ما بعد الحداثة” هو واحد من المصطلحات الأشدّ مراوغة وغموضاً، والتي درج إستخدامها مؤخراً في العلوم الإنسانية والعلوم الإجتماعية. وقد برز هذا المصطلح في أوآخر سبعينات القرن العشرين ولا تزال آثاره محسوسة على الرغم من أفول شعبيته في السنوات الأخيرة.
وحين وقعتُ لأول مرة على هذا المصطلح، استوقفني مقدار التناقض الذي يبدو عليه. فكيف لشيءٍ ما أن ياتي بعد الحديث، في الوقت الذي يشير فيه الاحديث إلى الأشياء القادمة الآن؟ ولقد علمتُ لاحقاً أنَّ هذا الإحساس بالتناقض هو من صميم المصطلح: فهو يتعمّد الإثارة والتحريض. بل إنّ الإثارة والتحريض لا يتأتيّان عن المصطلح ذاته وحسب، بل أيضاً عن الطريقة التي يقوض بها، بوصفه نظرةً أو رؤية معينة، كثيراً من الإفتراضات العزيزة على النظرية النقدية، بما في ذلك واقع “الحقيقة”، و”التقدم”، و”التاريخ”، و”الذات”.
كما أنَّ احد المؤديات التي تنطوي عليها ما بعد الحداثة هو أنّ النظرية النقدية، بإلحاحها على تشيء الذات (أدورنو)، أو إمكانية قيام تواصل غير مشوه بين الذوات (هابرماز)، قد غدت قبّعة عتيقة، وأنّ الفكر الراديكالي قد غدا الآن من إختصاص ما بعد الحداثيين.
والحال، أنَّ إنتشار الفكر ما بعد الحداثي وتوزعه يجعلان من العسير أن نصف هذا الفكر بطريقة مباشرة ومستقيمة.
فهو قريب مباشر لعدد من ضروب “الما بعد” الأخرى، مثل “ما بعد الأمبريقية” “ما بعد الصناعية”، “ما بعد الفوردية”، “ما بعد البنيوية”.
ويتداخل هذا المصطلح الأخير، بوجه خاص، مع ما بعد الحداثة، ذلك أنّ بعد البنيوية مقرونة إلى كتاب مثل جاك ديريدا وميشيل فوكو، مّمن يلحّون، إرتكازاً إلى ألسنية فرديناند دي سوسور، على فكرة أنَّ ما تعنيه الكلمات إنَّما يُسْتَمَد من علاقتها بعضها ببعض، وليس مما تشير إليه.
بل إن الشيء الذي تشير إليه يستمد معناه من العلاقة بين الكلمات. وهكذا، لا يكون لا يكون ثمة واقع خارج “اللغة”.
وما تختلف فيه ما بعد البنيوية عن سابقتها “البنيوية” هو أنّها تنكر وجود بنى ثابتة، متوضّعة عميقاً وتعمل كعمل قوانين الطبيعة.
وهي تلّح، عوضاً عن ذلك، على ما يتخذه الواقع من أشكال متغيّرة بوصفها نتاجاً للغة أو الخطاب. فحتى الذات الحديثة، المرنة هي نتاج للخطاب، كما يرى فوكو (1979).

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة