يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.
تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب
الحلقة 3
النظرية النقدية والعقل:
لقد تعلمتُ، منذ بدايات سعيي المتردد والمتلعثم وراء فهم النظرية النقدية عن طريق الإنسان ذو البعد الواحد والعقل والثورة (1973 ]1941[)، أنَّ سمةً أساسية من سمات هذا التقليد هي تلك الأهمية التي يسبغها على العقل، حيث يُكتَب الحرف الأول من كلمة العقل (reason) حرفاً كبيراً “R” في بعض الأحيان. ولم يكن من السهل أبداً أن أتوصلَ بالضبطِ إلى ما يعنيه العقل لدى المنّظرين النقديين، أو إلى ما يدفعهم في بعض الأحيان إلى كتابة الكلمة بذلك الحرف الكبير. غير أنني رِحتُ أرى شيئاً فشيئاً أن العقل بالمعنى الصحيح “Reason” هو بالنسبة لخم وأهمّ من مجرّد العقل. وأنهم يهدفون، فيما يهدفون، إلى تحدّي ما يُحسَب عموماً على انه العقل، وإلى التوسع فيه بحيث يغدو أكثرَ شمولاً. ومرة أخرى كان ماركوزه هو الذي فتح الباب.
لقد أشار إلى أنَّ هيغل كان قد جعل العقل السمة المحددة للكينونة الإنسانية (ماركوزه 1973: 5-11). فبينما يظلّ الحجر، على سبيل ابمثال، حجراً على الدوام، ولا يتبدّل “يتكشّف ويتطور … إذْ يكون في لحظة ما بُرعُماً، ثم يغدو زهرةً، إنه بالأحرى تلك الحركة الكليّة من البرعم إلى الزهرة إلى الذبول” (1973: 11-12). وهو يقترب من كونه “ذاتاً” بالمعنى الإنساني المميز من حيث أنَّ تطوّره ليس مفروضاً عليه من الخارج. غير أن النبات لا “يدرك” مايفعله، بل يفعله وحسب، على النحو الذي يتيحه المناخ والتربة. فلا يمكن الكلام على إدراك ووعي للذات، وعلى درجة من التعمّد تكون مندرجة في الفعل، إلا مع الذات الإنسانية إذ تقوم بما تقوم به. وكما يقول ماركوزه (9:1973):
وحده الإنسان يحوز القدرة على التحقق الذاتي، القدرة على أن يكون ذاتاً محددة لذاتها في جميع عمليات الصيرورة، ذلك أنّه وحده يمتلك فهماً للإمكانيات ومعرفةً ب”الأفكار”. ووجوده ذاته هو سيرورة من تحقيق إمكانياته، ومن صياغة حياته تبعاً لأفكار العقل.
هكذا لا يكون العالم الإنساني متمادياً مع الطبيعة ومؤلَّفاً من أشياء ثابتة،إمبريقية كما تراه الوضعية، بل شيء يربك الطبيعة بقَدْرٍ ما، ويروغ من سيروراتها السببية.
والعقل هو الذي مكّن البشر من أن تكون لديهم إمكانية تقرير المصير. وليس مُدهشاً، إذاً، أنَّ العقل قد ارتبطَ ذلك الإرتباط الوثيق مع ذلك المفهوم الأساسي الآخر من مفاهيم النظرية النقدية، ألا وهو الحرية أو الانعتاق. فلقد نُظِرَ، في الحقيقة، إلى الحرية والعقل على أنهما متعالقان على نحوٍ ديالكتيكي (ماركوزه 9:1973). فالعقل يفترض الحرية لأنَّ العقل يعني القدرة على التوجّه بالذات نحو تقرير حياتها الخاصة. والحرية، من جهة أخرى، تفترض العقل، لأننا لا نستطيع أن نقرر ما الذي يمكن أن تكون عليه الحياة الأفضل والأكثر إنعتاقاً إلا من خلال إعمال العقل.
ولا يقتصر الأمر عند ماركوزه على إرتباط الحرية بالعقل ذلك الإرتباط الوثيق، بل يتعدّى ذلك إلى النظر إلى كليهما على أنهما يرتبطان بقرابة وثيقة بفكرة الذات الإنسانية الواعية لذاتها، وبفكرة ال”geist” أو الروح-العقل. فالذات الإنسانية لا تكتسب أهميتها الحقّة، ولا تنضج شيئاً فشيئاً، إلا من خلال سيرورة تاريخية من تكوين الذات. فالذات الإنسانية الحائزة العقل هي وحدها التي يمكن لها أن تدرك ذاتها، لا بوصفها جزءاً من الطبيعة وحسب، بل بمعزل عن الطبيعة بدرجة ما. ولقد وجدتُ أنَّ العقل، يقع بالنسبة ل النظرية النقدية، في القلبمن شبكة الإمكانيات هذه.
لقد رأى ماركوزه في العقل والثورة أنَّ الإمبريقية تهدد بإستئصال العقل بمعناه العام إذ تُنْكِر إمكانية “الكليّات”. فالإمبريقية تطرد الفكرة التي مفادها أن من الممكن أن تكون هنالِكَ حقائق عامّة أو (كليّة) السريان يفترضها الشرط الإنساني، ولا تشكّل منها الوقائع الراهنة سوى لحظة وآحدة من لحظات تطورها، وأنَّ الوضع الراهن ينبغي أن يُتَحدَّى على هذا الأساس. فبالنسبة للإمبريقية، إما أن يُمكن رصدُ شيءٍ ما على أنّه كليّ فعلاً، أو لا يمكن. فإن لم يكن، وبالطبع لإإن ما من شيء في النهاية يمكن رصده على أنه كلي فعلاً، يغدو القول إنَّ العقل والحرية “خيران كليّان” مرتبطان بالشرط الإنساني مجرّد فكرة موهومة ووعد لا يتحقق. فهما ليسا سوى نتاج ل”العرف أو العادة” أو “آلية نفسيّة” (18:1973،20). وبتعابير إمبريقية، فإنه إذا ما كان من الواجب وجود نقد للوضع القائم، فإن هذا النقد لا يمكن أن ينبع من اي نقصٍ أو تناقضٍ متأصلين في الواقع، وإنما من أحدٍ ما يفرض قيمه “الذاتية” بطريقةٍ نقدية على وضعٍ موضوعي، وقائعي.
لقد شعرت في البداية بشيءٍ من التشوّش الناجم عن التنافر بين رفض ماركوزه للرواية الإمبريقية عن العقل ودفاعه العنيد عن البديل الهيغلي في العام 1941 من جهة اولى، وبين مزاجه الكئيب في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد في العام 1964 من جهة ثانية. غير أنني أدركتُ أنَّ النظرية النقدية تستجيب للتغيرات التاريخية وأنَّ النظريتين السابقتين ليستا بعيدتين عن الترابط. ففي حين عُنْيَ العقل والثورة بنقد هيغل للإمبريقية، وعُنْيَ في أقسامه الأخيرة بنقد عام للوضعية الفلسفية وإفتراضاتِها “السايسية المحافظة”، فإنَّ ماركوزه، في الإنسان ذو البعد الواحد، يسهب في الكلام عن ما ترتّب على ذلك من نتائج أخلاقية وسياسية، كاشفاً، في العام 1964، عن إتّساع القاعدة التي إكتسبتها هذه النتائج، وأنَّ ذلك يبشّر بإغلاق الباب على العالم السياسي ولإجتماعي.
ولقد رأى ماركوزه أنَّ العقل قد غدا ظِلاً باهتاً وحاقداً لذاته الفعلية. فالعقل، في كنف الإفتراضات الإمبريقية، إنصرف عن القضايبا الكبيرة والكلية المتعلّقة بما يمكن أن تكون عليه الحرية والعدالة، وراح يقصر أهتمامه على ما يمكن أن يفعله بما هو موجود أصلاً: الوقائع. وكلّ من يتكلم على أنَّ مثل هذه الوقائع الكبيرة يمكن أن تنطوي على أفكار صار يُنبَذ بوصفه إيديلوجياً، أو ميتافيزيقياً، أو ذاتياً خالِصاً ليس غير. أمّا المهمة التي استعدّ لها العقل آنئذٍ فكانت أن يغدو أداةً للتعامل مع الوقائع، ضرباً من البراعة في قياس ماهو ملائم وعملي تقنياً وحسب. ولقد كان لي أن أرى أنَّ هذا الشكل من العقل ينطوي على ما يتعدّى الشبه العابر مع وصف ماكس فيبر لعملية “العقلنة” أو “الترشيد” (Zweckrationaliat)، حيث الوسائل الأفضل لتحقيق غاية معينة تكون لها الغلبة على العناية بصحَّة تلك الغاية وشرعيتها. وهذا ما يعرّفه ماركوزه بمصطلحات سياسية بأنّه اللازمة المُصاحِبة لشكل دقيق من أشكال الضبط الإجتماعي. فتطبق هذا العقل التقني، أحادي البعد يمكّن المجتمعات الرأسمالية-الصناعية من إنتاج وإستهلاك السلع على مستويات متزايدة أبداً، مع أنَّ الثمن الذي ينبغي دفعه لِقاء ذلك هو مستويات متزايدة أبداً بالمثل من الإمتثال، والإستيعاب، وغياب الحرية. وهذا ما يناقض ما تدّعيه هذه المجتمعات على نفسها.
والحال، أنَّ نقد ماركوزه للوضعية لم يّمر من غير أن يواجه بعض التحديات. فقد انتقده الراديكالي الإنجليزي سيدني هوك منطلقاً من أنَّ الوقائع، بالنسبة للعلم، ليست أشياء “معطاة” بل أشياء ينبغي إكتشافها، وأنَّ العلاقة التي تنطوي عليها من مُثلنا ومبادئنا هي الكفيلة بأن تكشف عن مقدار الذكاء الذي اخترنا به هذه الأخيرة. غير أنّ علينا أن نلحظ هنا أنَّ ماركوزه لم ينكُر أبداً أهمية الوقائع بحدّ ذاتها، بل كان يعتقد في حقيقة الأمر أنَّ الإمبريقية بتركيزها على الواقعة كانت في الأصل راديكالية وفاعلة في تحديها الأفكار الخرافية ما قبل الحديثة. لكن المشاكل تبرر حين تعمل وقائع وضع معين على تقييد الفكر، كما لو أنَّ تلك الوقائع هي كل ما يمكن أن ندرك وجوده(انظر كينلر 1984: الفصل الخامس والهوامش الخاصة به).
سِجالُ ماركوزه في في الإنسان ذو البعد الواحد هو سَجالٌ هيليّ وماركسي (إلى جانب أشياء كثيرة أخرى). ولقد توقّعتُ لأن يفرض عليه ذلك إعطاءَ الأولوية لكيانات جمعية مثل الطبقات الإجتماعية، لكن مل لفت إنتباهي، ولا يزال يلفته، هو عنف دفاعه عن الفرد، والطريقة التي يحمل بها على غياب الفردانية الأصلية الموثوثة في مجتمعات لا تني تدّعيها بصوتٍ عال. ف النظية النقدية، مع أنني لم أكن أعلم ذلك في حينه، هي تقليد مُرقَّش أشد الترقيش وينبغي أن نتوقَع منه مثل هذه المفاجآت. فلطالما كانت سائبة الأطراف فكرياً، مشتملةً على تشكيلة واسعة من الكتّاب الحاضعين لتأثيرات متنوّعة ويتّسمون بأساليب، وشخصيات، وإهتمامات فكرية متمايزة خاصة بكل منهم. ولعلها لم تكن في أيّ لحظة من اللحظات، وبكل معنى الكلمةظن تلك النظرية العابرة للفروع كما أَمِلَ لها مؤسّسوها أن تكون، إلا أنَّ قدرتها على تغطية مجالٍ من الموضوعات واسع بصورة إستثنائية والكشف عن تفاعل أبعاد الحياة الشخصية، والإقتصادية، والسياسية، والثقافية من وجهة نظرٍ مشتركة إلى هذا الحدّ أو ذاك، إنما هو أمر لافت بالفعل.
إنَّ إلقاء نظرة خاطفة على أربعة من قرّاء النظرية النقدية، هم أرتو وغيبهارت (1987)، وبرونر وكيلز (1989)، وإنغرام وسيمون-إنغرام (1992)ظن وراسموسن (1996) لكفيلٌ بأن يكشف المدى الذي تطوله أفكارها. فهو يمتد من “الشعر الغنائي” إلى “رأسمالية الدولة”، ومن “الطابع الفيتشي للموسيقا” إلى فكرة “أزمة الشرعية”، ومن “المفاعيل الإجتماعية للتكنلوجيا” إلى “السريالية”، ومن “النظرية النقدية والمجال العام” إلى “النظرية النقدية وما بعد الحداثة”. والحقّ، أنَّ ثمة خطراً حاضراً على الدوام في إعادة سرد حكاية هذه التقليد يتمثّل في العادة غير المتعمّدة التي تدفع المرء لأن يلم شتات الأطراف السائبة كيما يجعل الأمر كُله أشدّ تماسكاً بالنسبة للقارئ؛ وهذا ما يتنافر بالتأكيد مع روح النظرية النقدية.